إنَّ النفس تستهوي ما يغريها …بقلم لمار الباير

0 200

 

 

العالم الان – في صباح يوم جديد مفعم بالحيوية والنشاط ، بينما كنت أتجول في أزقة البلدة القديمة (حارة الفواغرة ) في مدينة بيت لحم٬ ذات الطابع المعماري الأصيل ، والبيوت القديمة المتلاصقة ، والشبابيك الكبيرة المقوسة ، وشارعها الطويل الذي يتفرع منه عدة أزقة ، التي تأخذنا الي ضجة السوق من جهة وأصوات أصحاب البسطات من جهة اخرى، ولا ننسى بالطبع بيوت السكان العريقة ، وبعد مضي الوقت من السير والتجول ، استوقفتني رائحة منعشة ، رائحة مشبعة بالتوابل العطرة والاعشاب الطازجة الممزوجة برائحة تراب الوطن  ، تغلغلت برأسي حدقت ببصري سريعاً حتى أستدل على مصدر تلك الرائحة ، فإذا بها آتية من عطارة عبارة عن حانوت صغير قديم الطراز ذو الباب الاخضر الحديدي بجدرانه القديمة ، وانتابني  الفضول حول قصة هذه العطارة ، دخلتها وعلى وجهي إبتسامة عريضة متشوقاً لمعرفة صاحب هذا المحل وحكايته مع العطارة ، وعند السؤال تفاجأت أنه أول  محل يقام للعطارة في هذه المنطقة ، فصرت أتأمل ما تشاهده عيناي ٠٠٠ على يميني كان هناك رفوف خشبية يضع عليها بضاعته من حلويات، بقوليات، وأصناف عديدة من التوابل ، أما سقفه فكان مقوس مطرز بالحجر القديم ، إضافةً إلى أنه يوجد لديه مخزناً يخزن فيه بضاعته التي يستوردها ، أما بساط أرضه فهي قديمة جدا ولونها اسود مفحم ، الأمر الذي جذبني أكثر أنه وبالرغم من التطورات التي نشهدها الآن إلا أنه بقي محافظاً على ميزان الكفتين ومتأصلا به كما يُعرف لنا  أن  هذا الميزان قد انعدم وجوده منذ عشرات السنين ، اضافة إلى بعض المعدات التي كان يستخدمها  العطارين قديماً ٬ فهذه العطارة بقيت صامدة فقد مرت أعوام وسنوات عليها وشهدت صعوبات كثيرة إلا أنها كانت ولا زالت العطارة القديمة والأشهر  التي يقصدها الكثيرون لتلبية أمور حياتهم اليومية .

 

عطارة دعدوش اسم توارثته أجيال منذ عام ١٩٣٦م ولمع قديما في عالم العطارة ولا زال حتى الآن ، حيث أنها أنشئت على يد الحاج دعدوش عبد الجواد حداد _ رحمه الله _ المُؤسس الأول لمهنة العطارة في مدينة بيت لحم ، فقد تَعلق وأحبّ تلكَ المهنة كَثيرًا ومن شِدَّة حُبه لها ورَّث هذا الحب لأبنائه وأحفاده فأصبحت المهنة الأُولى لعائلة حداد، وظلّوا محافظين على هذا الإرث العظيم  حتى يومنا هذا إلى أن وصل بِهم الشَّغف إلى افتتاح فروعٍ أخرى في مدينتيّ الخليل وبيت لحم.

في بداية حياته كان يقنط في مدينة الخليل ثم انتقل إلى بيت لحم فبدأ مسيرته المِهنية عندما استأجر محلاً صغيراً جداً يقع في وسط سوق بَلدة بيت لحم والذي اقتصر فيه  على بيع أشياء بسيطة كبعض المواد الغذائية؛ مثل الطحينية  الطبيعية المصنوعة يَدويًا الخالية من المواد الحافظة …والقليل مِنَ التوابل كالفُلفل الأسود ، الكُركم والسُّماق، إضافة إلى الزيوت الطَّبيعية كَزيت الخَروع ، زيت جوز الهِند، وزيت الزيتون ، كل هذه المواد كانت صنع يديه ، بَعدَ عَشرة أعوام مِنَ الجِد والعمل وتَطور الحال قام بنقل دُكانه إلى أحد حارات البَلدة القَديمة لكونها أكثر الأماكن اكتظاظًا بالسُّكان ويَقصدها السَّائحين بِكثرة لموقعها الاستراتيجي.

يَومًا بَعدَ يَوم أَصبحَ اسمه يَتناقلهُ النَّاس وباتَ مَعروفًا في السُّوق؛ لِكونِه الوجهة الوحيدة للعَطارة فلم تَكن تِلكَ الصَّنعة مَعروفة من قَبل، ومع مَضي الوقت ومرور الأيام تَحسنَ مستوى دخله بشكلٍ ملحوظ، فبدأ يُوسع دُكانه شيئًا فشيئًا ،حيثُ أصبحَ يَستورد التَّوابل مِنَ الهِند والأُردن والحَلويات المَحليّة من نابلس وجنين، وانتهى به الحال على أن يُصبح أشهر عَطارًا في بيت لحم.

عَلى الرُّغم من أنَّ مِهنة العَطارة انتشرت بِشكلٍ واسع وأَصبحَ يَمتهنها سائر الناس إلا أنَّ عطارة دَعدوش كانت وما زالت مُتأصلة بِعراقتها ومِهنيتها، تَمكن دَعدوش مِن كَسب مَحبة الناس لهُ بسبب تَعامله الحسن مع الزبائن، حيث أنه استطاع أن يكوِّن علاقات عائلية مع سكان البلدة لحسن أخلاقه  ، فصحيح أن دعدوش رحل ، لكنه ترك مكانة خاصة في قلوب الناس ميزته عن سائر العطارين الأخر، والذي يؤكد لنا هذا أنه عندما قابلت أحد  الزبائن القدامى  لهذا المحل ، بينما كان يسرد لي قصته مع “عطارة دعدوش” لم يتوقف دقيقة عن الإبتسام ، فكان يقول أنه كان يعاملنا كأولاده ولطيف مع الجميع ، علاقتهم كانت متينة جداً  وجميلة حيث الأفراح والأتراح ، أيضا حدثني أن دعدوش مشهور فصنع الطحينية الطبيعية فكان يملأها بصاج كبير له فوهة ثم يسكبها للزبائن في أباريق حيث قال ” من كتر ما كانت زاكية كنا نشرب نصها فالشارع” ، فنهاية قوله تحدث أن الشيء الذي يميز “عطارة” دعدوش” لهذا اليوم هو بساطته حيث بقي محافظاً على كل أثر في محله لهذا اليوم فلم يغير إلا أشياءً بسيطةً كالإنارة ، والجبس ، والرفوف الخضراء

 

واللافت في مهنة «العطارة» أنها من المهن القديمة التي ما زالت حاضرة حتى عصرنا هذا ، يتوارثها الأجيال من الآباء والأجداد ، فهي الملاذ الآمن لكثير من الناس الذين يلجأون  إليها في كل زمان ومكان  باعتبارها خالية من المواد الكيميائية، فهذه المهنة تفتح  أمام صاحبها تَحديات ومواقف صَعبة لأن أي خطأ قَد يُسبب ضرر على حياة الناس.

فهي عمل الأطباء قديماً حيث كان العطار وما زال صاحب الطب التقليدي والطبيعي.

رابط مختصر:
مقالات ذات الصلة

اترك رد