تجربة اللامركزية ووقت مقتطع للتقييم – د.غالب سعد – الأردن

0 374

العالم الآن – لا يستقيم الحديث عن اللامركزية دون الاشارة الى المركزية، بصفتهما وجهان لعملة واحدة، فاذا كان نظام المركزية يعني، تركيزالصلاحيات والموارد في يد المستويات العليا من الأطر والمسؤولين، وتركيزها جغرافيا، في مكان عملهم، في العاصمة عادة، او أي مكان يتخذونه مقرا رئيسيا لهم، فان نظام اللامركزية هو، تفويض الصلاحيات وتوزيع والموارد علي مستويات اقل من المسؤولية، ومناطق ابعد عن العاصمة اوالمقر الرئيسي، وفي المضمون، تنطبق هذه المفاهيم على كثير من المجالات، في السياسية والادارة او الانتاج والمرافق والخدمات اللوجستية، وغير ذلك، وليس هناك بالمطلق، تفضيل لأحد النظامين على الآخر، فلكل منهما سلبياته وايجابياته والظروف الأنسب لتطبيقه، ولكل منهما مؤيدوه ومعارضوه، فهناك من يعتقد، ان النظام المركزي يقلل التكاليف ويحقق الوحدة والتماسك والأنضباط في الأداء، بينما يعتقد آخرون ان اللامركزية انسب لتخفيف الضغط عن المركز، وتحقيق العدالة وتعميق المشاركة والأحساس بالأنتماء وتفجير الطاقات، وتتباين المقاييس والتقديرات من مجتمع لآخر، ومن مرحلة لأخرى حتى في المجتمع ذاته.
بدأ الأردنيون يستمعون لأشارات، حول الحاجة لتطبيق اللامركزية ، في الخطابات الملكية السامية منذ عام 2005، الا ان الفكرة احتاجت لعشر سنوات، حتى تجسدت في القانون رقم (49) لسنة 2015 ، واحتاجت لسنتين اضافيتين، حتى تجسدت في انتخابات محلية، ظهرت نتائجها في الشهر الثامن من عام 2017، ولا شك ان لهذه التواريخ دلالاتها، قبل ان نصل الى فكرة تقييم التجربة، من حيث مضمونها وآفاقها في السنوات الثلاث القادمة، فالدلالة الأولى، هي ان اللامركزية في الأردن، لم تأت نتيجة حركة مطلبية ضاغطة من الشارع، بل بمبادرة من ملك البلاد، بحكم اطلاعه على تجارب الدول والشعوب، واحساسه المبكر، بحاجة الاردنيين، وقدرتهم على الانخراط في صناعة مستقبلهم، بما يتلائم مع متطلبات الاستقرار والتنمية والتنافسية، والدلالة الثانية، ان هذه الفكرة، احتاجت من مؤسسات الدولة، لكل هذه السنوات حتى ترى النور، مما ينم عن ضعف في الجاهزية الفكرية والسياسية وربما الادارية، لالتقاط فرص التحديث، وتخطي المعوقات، وتحييد الافكار المحافظة والمترددة، أما الدلالة الثالثة والأخيرة، ان محيطا جيوسياسيا عاصفا بالاحداث، وعالما يتميز بالسرعة والتنافسة الشرسة، لن يترك للاردن في كل مرة، ترف الانتظار لعشرات السنوات، لانجاز فكرة او خطوة تحديثية، وما اكثر الخطوات التي تنتظرنا، في مجالات، الطاقة والنقل والمياه والزراعة، والتعليم، او في مجالات التنمية السياسية والادارية وبناء القدرات المؤسسية والبشرية، فما احوجنا لظبط ايقاع الوقت، بين التسرع والسرعة في مسيرة النهضة والتنمية، لأن التسابق بين الدول الحية، يحسب بالايام والساعات وليس بعشرات السنين.
اما فيما يتعلق بتقييم تجربة اللامركزية ذاتها، فهي ما زالت عرضة لهجمات المنتقدين، بأنها لم تترك اثرا في واقع الحياة اليومية، ولم تحقق طموح القيادة ولا احلام الشباب، وكأنها كانت هدفا بحد ذاتها اومكسبا ماديا ومعنويا لفئة المشاركين فيها، وملهاة انتخابية لم نكن بحاجة اليها أصلا، وفي المقابل، يحاجج المدافعون عنها، ان عاما واحدا لا يكفي للحكم على تجربة جديدة من هذا النوع، وهي تحتاج لمزيد من الوقت حتى يتم هضمها، سياسيا واداريا وفنيا، وربما يتذرع البعض، بعدم النقل الفعلي للصلاحيات من المركز الى الدوائر في المحافظات، وعدم الوضوح في المهام والتداخل في الادوار مع البلديات، ومحدودية الخبرة والموازنات وأدوات العمل والدعم اللوجستي، وروتين المخاطبات، وغير ذلك من الاسباب التي تستدعي اللين والتسامح في التقييم.
بين مؤيد ومعارض، يقف معظم المواطنين، ولسان حالهم يقول، اذا كانت سنة واحدة من عمر التجربة لا تكفي للحكم عليها، فيفترض انها كانت كافية لهضم اهدافها وتأقلم الاعضاء والموظفين مع طبيعة مهامهم، واستكمال البناء المؤسسي وضبط العلاقة مع المركز والبلديات وتوفير مرجعيات وادوات العمل، واذا لم تصل رسائل واضحة للمواطنين ان هذه المرحلة البنيوية قد تم انجازها، وان الوقت المتبقي سيخصص للعمل والانجاز الفعلي، فسيسود الاعتقاد، ان هذه المناكفات بين المؤيدين والمعارضين ستستمر، وتمضي السنوات، حتى نعتاد على التعايش مع تجربة لم تحمل اي جديد، ونكون قد اهدرنا فرصة واعدة، عقدنا عليها الآمال، كأحد محطات التنمية السياسية والادارية في البلاد، وكان منتظرا ان تساهم في تحسين الظروف الأستثمارية والخدماتية في المحافظات، وان تشكل رديفا لمجلس النواب، ليصبح اكثر فاعلية وتفرغا للرقابة والتشريع.
خلاصة القول، ليس من مصلحة أحد تعثر اللامركزية بعد ان اصبحت واقعا على الارض، وليس من الحكمة التسرع في اصدار الأحكام والتشويش عليها، وليس من الصعب ادراك خطورة تسرب الأحباط الى نفوس المواطنين، واهتزاز ثقتهم بوجود الارادة السياسية وفعالية الادارة او نواياها، والأخطر من ذلك، ان نعيش جميعا، حالة الترهل واللامبالاة في تنفيذ الواجبات الوطنية، وننتظر حتى نهاية فترة التكليف، دون ان نعرف ما ذا تحقق، كيف ولماذا واين نحن ذاهبون، ان المسؤولية الوطنية، تتطلب من الجميع، مجلس النواب والمؤسسات الرسمية والمجتمع المدني والجامعات والفعاليات الاقتصادية والاعلامية، الأنخراط معا، في ورشة عمل وطنية، لتقييم تجربة اللامركزية في عامها الاول، ووضع النقاط على الحروف بكل موضوعية، ورسم خارطة الطريق للسنوات الثلاث الباقية، بما يضمن نجاحها والبناء عليها، في سياق رؤية القيادة، وتطلعات المواطن والمصلحة الوطنية.
سفير متقاعد

رابط مختصر:
مقالات ذات الصلة

اترك رد