وداعاً يا أمي – د. عصمت حوسو – الأردن
العالم الآن – الموت داءٌ قهّار لا دواء له سوى الصبر والرضا عمّا قُدّرَ لنا، ولا أحد منا عصيٌّ عليه، وكلّ إنسان سيذوق هذا الداء في نفسه مرّة واحدة وللأبد، وفي الأحباب والغوالي مرّات..
نحن وأنفسنا وأولادنا وأحبابنا ودائع تعود ملكيتها لربّ العالمين، ولا بدّ أن نردّ ودائعنا ونردّ الأمانات إلى أهلها يومًا ما، وإن فكّرنا بهذه الطريقة سنخفّف عنا أوجاعنا في كل مرة يفتك الأقرباء على قلوبنا هذا القهّار؛ لأنه حقّ، ولا بُدّ مما ليس منه بُدّ، وحينها لن ينفعنا السكون في حالة الإنكار ولا بدّ لنا من الصحوة والاستمرار..
علّمونا منذ نعومة أظفارنا أن الموت شيء مخيف وتجربة سيئة ومرعبة، لذلك ما زلنا نرتعد خوفًا وغضبًا عندما نسمع عن أشخاص وأقارب نعرفهم قد ماتوا، وفي المقابل، سمعنا كثيرًا عن جمالية “الحياة الأخرى” وسُمُوّها عن دنيوية هذه الحياة التي نعيشها، فلماذا إذًا نخاف الموت؟؟ لماذا نطلق الآهات والحسرات الجسام عندَ فَقْدِ عزيزٍ لنا؟؟ أليس من المفروض أن نفرح لهم لأنهم تركوا “دنيا الوجع” كما نسميها؟؟ وهل يحق لنا أن نكون أنانيين ونتمسك بأمانة ليست لنا ملكناها لفترة وجيزة مهما طالت؟؟ هل بإمكاننا أن نغبطهم لأن الله ميّزهم عنا واختارهم بقربه سريعًا لاكتشاف سحر الخالق في إبداع العوالم الأخرى؟؟
اعتقد أن جواب السؤال الأخير باعتبار الموت “تجربة فرح” وأن نستقبله بسرور لنا ولأمواتنا، ممكن أن تصبح سلوكًا معتادًا إن أعدنا تعريف فكرة الموت في أدمغتنا، بأنه شيء جميل لا مرعب، ونعلّم ذلك لصغارنا، ولا نتجنّب الحديث عنه، ونذكره بابتسامة، ونذكّر الجميع به باستمرار، ولكن بسعادة وراحة لا بألمٍ ونواح.
وإن عرّفنا تجربة الموت بكل مرّها وقساوتها على الأحياء بأنها رحلة جديدة ومثيرة للأموات، وأنّ أحباءنا قد سبقونا إليها هناك، وكأنهم في مكانٍ آخر مليء بالخيرات ونظيف من الشرور، ولا نستطيع أن نأخذ “فيزا” لزيارة هذا المكان الرائع إلاّ عندما يأذن لنا صاحبه. ألا نفعل ذلك عندما نزور الدول الأخرى ؟؟ وشتّان بينهما بالطبع، ولكن الفيزا لزيارة دول الله العظمى هناك في السماء هي شهادة (الوفاة)، وميقاتها عند الله وحده، في الموعد المقدّر الذي يختاره لنا كما قال ” وما تدري نفسٌ بأيّ أرضٍ تموت” ..
إن بدأنا التفكير بهذه الطريقة سنخفّف عن أنفسنا حسرة الحداد ومرارة الفقد وقساوة الشوق، وهذه الطريقة “الوحيدة” التي تجعل العقل يرضى بما لا يستطيع استيعابه، وتقبّل ما لا يرضى قبوله، وتلك أعلى درجات الإيمان؛ وهي الرضا بأمر الله وقضائه وقدره ، ولا يكلّف الله نفسًا إلاّ وُسْعَها..
أعيدوا تعريف فكرة الموت في عقولكم، فلن تخافوا منه بعدئذٍ، وسترفعوا درجة الجاهزية له بسعادة، وإنّ إحلال هذه الفكرة في الدماغ البشري محلّ فكرة الموت المرعبة والقاسية، هو ما سيجعل الإنسان يتنعّم في الحياة ولا يكتفِ بالعيش فيها فقط، وكأنه سيحيا فيها أبَدَا، ويتجهّز للموت وكأنه سيموت غدًا، أليس هذا ما يريده الله منا في هذه الحياة !! ألم يخبرنا بكتابه الكريم أنها مجرد “محطة” للانتقال إلى حياة أخرى أكثرُ رَغَدًا ؟!
ولو فكّر كل “البشر” بهذه الطريقة لاستطعنا أن نحلّ ( الأزمة الأخلاقية) التي نحياها اليوم؛ لأن كل شخص سيكون مشغولاً في الاستمتاع في الحياة، وفي التحضير للموت كذلك؛ بأعمالنا الشريفة، وسلوكياتنا العفيفة، وعلومنا وأفكارنا الحصيفة، وبأموالنا النظيفة ، لا مشغولاً في “إيذاء غيره” أو في الأمور السخيفة. لأنه -أي الموت- لا يأخذ موعدًا ولا يهاتفنا قبل قدومه، ووقتها سيخفّ الظلم، وستزيد الصدقات، وربما سيقلّ عندئذٍ عدد الجوعى والمحتاجين، وهنا استحضر هذه المقولة الجميلة لسيدنا عليّ بن أبي طالب: ( لا دار ٌ للمرء بعد الموت يسكنها، إلاّ التي هو قبل الموت بانيها، فإن بناها بخيرٍ طاب مسكنه، وإن بناها بشرٍ خاب بانيها). ولكم حرية القرار في اختيار نوعية حياتكم الحالية واللاحقة ..
جرّبوا هذه الفكرة، فهي الدواء “الوحيد” الجبّار لهذا الداء القهّار، وهي زادكم في هذه الدنيا الزائلة كذلك، فأنا شخصيًا قد جربتها في أول تجربة لي في الفقد عند وفاة زوجي، وهي الأقسى على الإطلاق، والآن برحيل والدتي، فتلك الفكرة الجديدة عن الموت هي ما أبقت عقلي في مكانه، ومكّنتني من تحمّل ألم الفراق، والمضيّ قدُمًا إلى أن يحين ميعادي..
مات زوجي قبل ثلاث سنين، ومن صدمة موته المفاجئ الذي أدمى قلوبنا جميعًا وكل من عرفه وأحبّه وأدمنه، أصابت الصدمة والدتي بالمرض الشديد، حزنًا عليه وحسرةً عليّ، فساءت حالتها إلى أن دخلت المستشفى ولم تخرج منها إلاّ “مشلولة” طريحة الفراش لا تستطيع الحركة، ومنذ ذلك الحين وقد عانت بشكل موجع جدًا توابع المرض، إلى أن توفّاها الله ولحقته قبل أيامٍ قليلة، رحمهما الله وغفر لهما ما تقدّم من الذنوب وما تأخّر ..
ولأنني أعدتُ تعريف مفهوم الموت في دماغي، ودرّبتُ نفسي على ذلك في أفكاري ومشاعري وسلوكي، تمكّنتُ اليوم من تحمّل فكرة “الغياب الأبدي” لحين اللقاء مرة أخرى معهما ومع أعمامي ومع كلّ الأحبّة، وأؤمن جدًا وجدًا في “حتمية اللقاء” مرة أخرى، فهذا “ترياقي” الأوحد والوحيد.
وكلما أتأمّل بحقيقة الموت أكثر، أتقبّله بصدر رحب بشكل أكبر، وكلامي هذا لا يعني أن لا نعيش “ردود الفعل البشرية” من مشاعر الحزن والبكاء في اللحظات الأولى بأقل تقدير، ولكن إعادة تعريف الموت واستبدال فكرة الخوف بالحب والرضا، تخفّف عنا ( المدّة والحدّة والشدّة) لخوض تجربة الفقد وحسرة الحداد لأيّ عزيزٍ علينا..
كان باستطاعتي أن اعتذر عن كتابة مقال هذا الاسبوع؛ لأنني ما زلت أتألّم على غياب والدتي ورحيلها الأبدي، إلاّ أنني آثرت الكتابة عن هذه الفكرة؛ (إعادة تعريف فكرة الموت في الدماغ البشري)، لأخفّف من مصابي، ومُصاب أي شخص سواء هو أو هي أو محبّيكم به، فلا مفرّ.
هذا المقال إهداء لروح والدتي التي ما زالت ترفرف حولنا، وأنا على يقينٍ تام أنّ كلماتي ستصلها أينما كانت..
وداعًا يا أمي، وإلى لقاء..
دفاعًا عن هذه الفكرة وهي استبدال الحقيقة الوحيدة في هذه الدنيا: “فكرة” الموت القاسية، بفكرة تقبّله بالرضا والراحة واستقباله بسعادة، والأهم الإيمان في جمالية الحياة الأخرى هناك، حتمًا سيكون لنا من هذا الحديث بقية….دمتم….