أردناك منيفاً مؤنساً عزاز يا رزاز – د. عصمت حوسو – الأردن

0 505

العالم الآن – كنتُ قد كتبتُ هذا المقال فورَ تولّي الدكتور عمر الرزّاز رئاسة الحكومة الحالية، التي جاءت من نبض الشارع في (الرابع) وأطاحت بسابقتها بدعمٍ من الشارع أيضًا، ورغم ذلك قادت هذه الحكومة حراك “الرابع” للاستمرار هناك في ذات المكان وللمطالب ذاتها وربما أكثر..

وصف البعض- وهم قلّة- مقالي آنذاك أنه “تسحيج” على الرغم أنه كان مجرد (تذكير وتنبيه) لا أكثر، وإيصال رسالة له بلسان المواطنين جميعًا، وهو شخصيًا -أي الدكتور عمر الرزّاز- كان قد فهم بوضوح تام وغيره من شرفاء الوطن مغزى المقال، والدليل أنه بادر شخصيًا فور قراءته وشكرني عبر اتصال هاتفي وأبلغني أن رسالتي قد وصلته ودغدغت مشاعره، أما بعض أصوات النشاز “السلبيين” الذين لا يقرأون بعمق ولا يفهمون ما بين السطور، وينتقدون لمجرد الانتقاد، لم يركزوا سوى على اسم المقال لا عمقه، وهؤلاء أعداء أنفسهم قبل عداوتهم لغيرهم وللوطن..

وإن لاحظتم أنني أصمّم هنا على أن أخاطبه بلقب (دكتور) عند الحديث عنه ومعه؛ لأن هذا اللقب، في نظري على الأقل، أهم وأعلى وأسمى بمسافات من أي منصب يشغله، وهو يليق به وبإرثه أكثر..

وارتأيتُ اليوم أن أُعيد نشر المقال مرة أخرى مع بعض التعديلات، بعد الإحباط المرعب الذي أصاب المواطنين جميعًا، وبعد الأحداث الكثيرة والمريرة كذلك منذ ذلك الوقت إلى الآن، عساه يسمع آهاتنا وحسراتنا المتصاعدة ببؤس شديد..

كنت قد بدأت مقالي حينها بكلمات مُختارة بعناية فائقة، وسأكررها هنا أيضًا، وهي كلمات أبيك الجميلة يا دكتور عمر، ذلك المناضل الأصيل المليء بالعزّة “منيف الرزّاز”، مقتبسة من كتابه (الحرية ومشكلتها في البلاد المتخلفة) الصادر عام ١٩٦٥؛ فرغم مرور عقود عدة على صدوره ما تزال أفكاره ذات قدرة على تفسير واقع اليوم رغم رداءة الحال وقباحة ما آل إليه المآل، حيث قال:
” إن أسوأ ما يمكن أن يصيب الشعب هو فقدانه للموازين الخُلُقيّة، فالاقتصاد قد ينمو، ومستوى الحياة قد يتحسن، والقوة العسكرية قد تتضاعف وتتعاظم، والمدارس قد تتسع، والحالة الصحية قد ترتفع، والسياسة الخارجية قد تنجح، ولكن شيئًا واحدًا لا بدّ أن يتدهور باستمرار هو المستوى الخُلُقي”…
أما أخوك مؤنس يا دكتور عمر فقد قال : ” أنصح المثقفين عدم الاقتراب من السلطة، وأخذ الحيطة والحذر من السلطويين، أعرف أنني سأموت يومًا، ولكنني أعرف أن الرجل الذي أمر بإعدامي سيموت هو الآخر ولو بعد حين”…
وهنا أؤكد على كلماتهما، توكيداً لا تطاولاً، وأقول لك نيابة عن أغلب المواطنين الشرفاء أننا احتجناك بطلاً جريئًا كأبيك وأخيك يا دكتور عمر، لأن سمات الرجل البطل في سواد العقل العربي الموبوء بالنمطيات المغلوطة، قادت الأغلبية منا إلى التغاضي عن الكثير من السمات المزعجة لنوطّن في عقولنا موقع البطل الجديد، ضمن رغبتنا الملحّة وشغفنا لوجود بطل -أيّ بطل- يُعوّل عليه الأمل يومًا ما، وليمنحنا الطاقة للاستمرار في هذا الوضع المحلي المزري، وفي هذا الزمن ؛ زمن الذبول والانكفاء العربي. والتاريخ يسجل ولا يرحم..

أنت تعلم ونحن نعلم أن مواصفات البطولة تلك لم يأتِ مثلها في عصر العرب الحديث، ولم يخطو حتى على أبوابها أحد كالسابق؛ فالمتطلب الشكلي لنموذج البطل جعل بعض النماذج (الممسوخة) تتبوأ موقع البطولة في الدماغ الغوغائي العربي، إمّا لندرة أو ربما لغياب الأبطال الحقيقيين المحفورين في أدمغتنا؛ لأن سيادة نمطية البطل هي عميقة الاعوجاج في العقل العربي الموروث، وهذا الأمر أسقطنا كلّنا ضحية (الحداد) على صورتنا الدماغية للبطل الذي تهاوت صورته كورق الخريف..

اعتقد أننا جميعًا بحاجة ملحّة الآن لمراجعة خرائطنا الجينية، وذلك للتأكد من انقراض (جين) البطولة وسماتها الفخمة -لا سمح الله؛ إما لتقبّل أمر هذا الواقع المُخزي والحقيقة الطبيعية المؤلمة (أو) لإثبات العكس بأقلّ تقدير، وإن ثبت العكس -إن شاء الله- ربما نتمكن من إفراز الحدّ الأدنى من الأبطال والشرفاء نساءً ورجالاً على حد سواء..

هناك إجماع شعبي بيننا جميعًا بوصف وضعنا الحالي بأنه حالة من (الأزمة الأخلاقية)، وعلى الرغم أن تعريف الأزمة بأنها محددة الزمان، إلاّ أننا حقيقةً ما نواجهه حاليًا ناجم عن بنية (فساد) خطيرة، مما سبّب انعدام السلوك الأخلاقي في التعامل مع المواطن والوطن. الأمر الذي يزيدنا يقينًا كلّ يوم بأن (المشروع الأخلاقي) فقط هو الحل، ولا بديل عنه، لعلنا بذلك نساهم في بقاء منظومة الأخلاق بجذور ممتدة في أعماق المجتمع ومخياله، عندئذ فقط يبقى الفساد دون رأس ويسقط على محراب الأخلاق مدويًّا وبالضربة القاضية؛ فهل ستبقى انتحاريًا كما قلت في البداية وتحافظ على وعدك لنا يا دكتور عمر باجتثاث رؤوس الفساد ؟؟!!

نحن الآن نتشبّث بمنطاد هواء عملاق على أمل البقاء عاليًا في علوّ سحابة الأمن والأمان وفخامة الوطن، نرجوك يا دكتور عمر لا تجعلنا نصل الى ارتفاع (غير مأمون) ثم نكتشف أن هذا المنطاد موهوم وما هو إلاّ (فقاعة) ستهوي بنا الى القاع تاركة فينا رضوضًا وإعاقات مختلفة؛ ففينا منها من العواطف والسلوكات والانطباعات المسكونة بالحسرة والخذلان وتهاوي الأمل ما يكفينا. فلم يحدث أن مرّت مرحلة في التاريخ الإنساني والأردني على وجه الخصوص تنافس مستوى (الإرهاق النفسي) للمواطن مثل الحقبة الحالية؛ حقبة الضغوط النفسية المحلية، ومستوى (الخيبات) كذلك لما يحدث الآن في الساحة العربية.

عبثية اللحظة الراهنة وتيه البوصلة الوطنية وانحرافها نحو الذلّ والإذعان والفساد المستشري بعيدًا عن مسارها الصحيح نحو (الكرامة)، سواء عن جهل أو حتى بسابق إصرار وترصّد، لا فرق، هو السبب الرئيسي لإخفاق (رجال ونساء) المرحلة الحالية في امتحانات البطولة والكرامة الوطنية تمامًا كالإخفاق الشخصي في امتحان الثانوية، وأنت الأكثر خبرة في صعوبة الثانوية يا دكتور عمر ..

البلد اليوم يمرّ بمحن وصعاب -وما أكثرها – سياسية كانت أم اقتصادية واجتماعية، وهي بحاجة إلى أبطال استثنائيين لإحياء الروح المعنوية الهزيلة البائسة لدى مواطنيها، وإذكاء الأمل لديهم بانتزاع حقوقهم المتآكلة من تلك القوى المتخاذلة، لا قتلها وتهشيمها بضربات قاتلة ومميتة. نحتاج الآن أكثر من أي وقت مضى لأبطال تكون لديهم رؤية واضحة وروح بإرادة عالية لِنقل تلك الروح عن طريق (العدوى) للجميع بلا استثناء، وذلك لصناعة تاريخ مشرّف من الخَلَفْ اقتداءً بالسَلَفْ؛ نرجوك إبقى منيفًا ومؤنسًا عزّاز يا رزّاز..

من المعلوم أن السلوك المشين الصادر عن أي جهة كانت سواء بشكل مقصود أم غير مقصود (جريمة)، إلاّ أن ردّة الفعل غير الحكيمة الآن هي أكثر جُرمًا، فلا الوطن ولا المواطنين حاليًا قادرين على تحمل نتائج عواقبها وخيمة ستمس الجميع بلا استثناء. فلا تكن يا دكتور عمر كما كانت الحكومات السابقة المولعة باللعب في النار على قناعة خاطئة منهم جميعًا بأن قفازاتهم الصلبة ستنجيهم من الحريق والاشتعال، إلى أن حرقتهم جميعًا ونبذتهم شعوبهم ووثق التاريخ قوائمهم السوداء بتاريخهم الأسود، فالشعب اليوم زاد وعيه يا دكتور عمر وخنقته أزمات الوطن المالية التي لا دخل له فيها، ولم يعد يحتمل مثل السابق، نرجوك الحذر يا دكتور عمر ..

هذه الكلمات نابعة من قلوب مألومة ونفوس مكلومة حزينة على ما آل إليه حال الوطن، فهي ليست شعارات معلوكة للتصدير الإعلامي، فلا بد من سماعنا يا دكتور عمر، ونرجوك سماع الأصوات الحكيمة كذلك، فنحن والوطن أمانة في عنقك…
أدعو الله أن يكون بقية حديثنا لاحقًا أكثر تفاؤلاً…دمتم…
#دةعصمتحوسو
#مركزالجندراستشاراتنسويةاجتماعية

رابط مختصر:
مقالات ذات الصلة

اترك رد