بهلول زمانه – د. عصمت حوسو – الأردن

0 685

العالم الآن – هو ذلك الشخص الذي يعاني من أزمة “الجهل المركّب”؛ فهو يجهل أنه جاهل، ويزعُم أنه عالم، ويظنّ نفسه العارف بكل شيء.
وما ينطبق عليه هو ما قاله حمار الحكيم “الطبيب توما” عنه، وتوما حكيم ورث مهنته – أيّ الطب – عن أبيه، وكان الأخير حكيمًا ماهرًا، أما توما لم يكن بمهارة أبيه، ولكنه احتفظ بلقب الحكيم رغم جهله، وقلة علمه، وانعدام حكمته، إلى أن ثار حماره يومًا عليه، وطالب أن يركبه هو لا أن يكون ركوبته، وقال حمار الحكيم توما وقتها “لو أنصف الدهر كنت أركب، فأنا جاهل بسيط، وراكبي جاهل مركّب”.. طوبى للحمار ولا عزاء للحكيم..

يتّصف سلوك بهلول زمانه بِ “رعونة الصغار”، فلا يستطيع أن يميّز بين الحلم والحقيقة، فتارة يغوص في (تخاريف الحلم)، وتارة أخرى يسبح بين (تلابيب الواقع)، فيصحو دومًا بحالة من الذهول لا يدري حينها أنه كان في هذيان حلم جميل أم في واقع مُثقل بالعويل، وكلما اقترب من الحلم وحاول لمسه، يُسلب منه مرة أخرى، ثم يعود إلى نقطة الصفر.. وهيهات..
وكنتيجة حتمية لذلك، اختلط على “بهلول زمانه” الواقع مع الحلم، فأضحى الأول أضغاث أحلام تَحرِقه، وبات الأخير كابوسٌ يؤرّقه.. وما أكثر بهاليل بلادنا وزماننا..

أسماء “بهلول زمانه” كثيرة جدًا، كيف لا وكلماتهم دومًا عالية الإيقاع، وجميلة النغمة، ولكنها تتوقف هناك عند رقصة “الحجّالة”، وليس لها وجود في عالم “الرجّالة”، فأفواههم كبيرة تنطق الهوى ولا تفعل، لذلك يسقطون بسرعة في أرض الخصم؛ بسبب فقدان (البصيرة) وغياب المعلومة الصحيحة، وهذا إن دلّ على شيء لا يدلّ سوى على ضحالة الفكر وسطحيته، وهو أمر غير مستهجن على (بهلول زمانه) كما ذكرنا هنا أعلاه، فحتى حمار “الحكيم توما” استعلى عليه..

وهنا يحقّ للعرب، كلّ العرب، التساؤل بهذا السؤال المشروع جدًا في اللحظة الراهنة: هل بهلول زمانه بأشكاله المتعددة المنسوخة والممسوخة في ذات الوقت، والمتكاثرة بشكل عجيب في هذا الزمن الغريب، تستخفّ بعقولنا جميعًا إلى هذا الحدّ المقيت؟!
أم أن العقول العربية ذاتها قد تبلّدت وأصابها “العجز الفكري” الذي قاد إلى (إخصاء) العرب، وبدّد (فحولة) الوحدة العربية، وأخمد شهوة الإبداع وذروة الابتكار؟! هل يلزمهم حاليًا (فياجرا) تحيي العقل المكبوت المجبول على “عقدة الأنا” ؟؟!!

قليلٌ من العقل لا يضرّ يا عرب، كفاكم عجزًا وتخاذلاً وانجرارًا وراء البهاليل، عارٌ على عروبتكم المُتخمة بِ (الذكور المخصيّة) كرامتها، والتي أصاب عقولها “الزهايمر المبكّر”، فأودى بها إلى المزيد من حالات التشتّت والعشوائية، فلا تلعنوها إن استيقظتم من سباتكم اللعين بسبب عجزكم وقصوركم ذاته..

وعودة إلى بهلول زمانه، فهو يعود إلى الحلم في كل مرة يتورط فيها في (صفقات) مشبوهة أكبر منه، وأصعب عليه أن يلعبها “صح”، فيقع ويوقع معه من ورّطهم معه “خاوة”، ثم يتركهم لمواجهة مصيرهم وحدهم، ويدفعون ثمن حماقتهم غاليًا، لا لسبب سوى الانجرار وراء بهلول من بهاليل الزمن، ورغم بهللة بهلول إلاّ أنه ذاته الذي ينفخهم ويغذّيهم بالغرور، ثم يجعلهم فيما بعد “حطبًا” لنار غبائه أو ربما (دهائه)، فهو يقودهم نحو المجهول دون أن يؤهلهم مسبقًا لخوض جولاته الخطيرة وغير المعلنة..

وقد يكون بهلول زمانه أيضًا أحد العابرين أو المارقين الطارئين على الوطن، أولئك الذين لم يبلغوا (سنّ الرشد) بعد، لا في التاريخ ولا في الجغرافيا، وما زالوا مراهقين سياسيًا، وعاطلين عن الفكر متعطلين عن الاجتهاد، دائمي البحث عن دور، أي دور، في “المسرحيات الهزلية” التي لم تعد تنطلي على المواطن؛ لأن زمن تمرير الرسائل البهلوانية للشعوب العربية عبر استعراض “متذاكي” قد ولّى وعفت عليه أزمات العرب المتتالية وهزائمهم المتوالية، وباتت اللعبة التي يرسمها ويلعبها “الأشرار” ويكتوي بنيرانها “الأخيار” مكشوفة للغاية، وما يحدث حاليًا هو دليل صارخ على وضاعة تلك اللعبة المكرّرة، فمن يمسك بخيوط اللعبة ليس كمن يكتوي بنارها ونيرانها اللعينة.
كل ذلك وأكثر بسبب من يتقافزون بحثًا عن بطولات مجانية ووهمية في ذات الوقت، يصطادون ضحاياهم في شباكهم بمهارة، ثم يرمون بهم في أعماق المحيط دون إتقان السباحة حتى في البحر.

لا أدري هل من يفعل ذلك هو بهلول زمانه أم من يلهثون وراءه هم البهاليل؟! أنّى لكم الصحوة يا عرب؟!
بهلول زمانه يعتقد واهمًا أنه من خلال التطاول وإثارة الفتن يحقق بطولة بين ليلة وضحاها، وما يغويه لفعل ذلك هو العالم الافتراضي وسرعة انتشار سمّه المدسوس في العسل، والعزف على وتر الوطنية المزعومة، والترهيب مما هو قادم، فزاد عدد بهاليل الوطن من المنظّرين والمتفلسفين والمحلّلين الذين يتشدقّون بالوطنية باستعلاء وفوقية، والمصيبة هنا عدد السذّج الكبير المطأطئين رؤوسهم للبهلول، والمتنطّعين للدفاع عنه، ولا غروَ في ذلك، فأقوالهم تُدهش (الصغار) وتلعب بعقولهم “المقزّمة” المتهافتة على المشاعر الوطنية (الإلكترونية) بسذاجة مُطبِقة..
احذروا بهاليل البلاد والعباد، الذين ركبوا “الوهم” جوادًا، فلا تقعوا في كبوة هذا الجواد، وتخسروا كل شيء بثمن بخس ونهاية تراجيدية غير محسوب حسابها.

بهلول زمانه بصوره المتجددة هي صور مرعبة ورنّانة، ولها منحنيات وتموّجات حادّة، تبرق بلون الخطر، (اللون الأحمر)، وهذا إنذار تحذيري يطنّ في جوف “عقل العرب الباطن”، وكل ما يصدر عن بهلول زمانه وأتباعه ارتبط ذهنيًا في العقل العربي بنتائج سلبية لا تخرج عن إطار “فكر المؤامرة”، والخديعة، والاستخفاف في عقول المواطنين، الأمر الذي أدّى إلى زيادة (المناطق المعتمة) في العقل العربي، ولم تأتِ من فراغ البتّة؛ وإنما أتت من “انتهاكات الحقوق” واغتصاب الأوطان وإزهاق الأرواح البريئة التي يجمّلها بهلول زمانه وأشكاله..

وعلى الرغم من هذه الصورة “السوداوية” في ظل الشرذمة والعبثية في جميع أنحاء الوطن العربي حاليًا، إلاّ أننا ما زلنا نتمسك بحقّنا في الحلم بِ (التغيير الاجتماعي الإيجابي) لواقع نتعايش معه ولا نكاد نقبله أو نطيقه، ولكن، ألا يكفينا أحلام تراود الخيال؟! أما آن الأوان لنعيش هذا الواقع الذي نريد؟! كيف يمكننا تحويل الحلم إلى حقيقة وبهلول زمانه من يتسيّد الموقف أو يتصيّده، لا فرق !!

الشعوب لا تتقدم في الأحلام ولا في العناد والانقياد وراء البهاليل، وإنما تتقدم في العمل وحده لا بالكلام، فلا مكان لأحلام مُحقّقة ما لم تقترن بالفكر المنهجي “الوحدوي” المتوازن، والسلوك السويّ الجادّ، صحيح أنه ليس بالأمر الهيّن، ولكن مفاتيحه بوعينا وبوعينا فقط، وعمل عقولنا، ربما نصلح ما أفسدته البهاليل لا ما أفسده الدهر، فالأخير لا يُفسد بحجم فساد وإفساد بهاليل الأزمنة والأمكنة..

طالما (بهلول زمانه) مزروع في الجسد العربي، حتمًا، سيبقى لنا قلمٌ قاسٍ في وصفه، ولقصته بقية… دمتم..

دة. عصمت حوسو

رابط مختصر:
مقالات ذات الصلة

اترك رد