فن التطنيش – د. رائد صبري – الأردن
العالم الآن – واذا اردت ان تعيش فلا بد أن تتقن فن التطنيش
وحتى العوام يقولون : طنش تعش تنتعش، ومعنى ذلك أن لا تبالي بالحوادث والمنغصات، التي من حولك وهو فن لا يتقنه إلا الأذكياء
وأنت إذا ذهبت تدقق على كل جملة ، وتبحث عن كل كلمة ومقولة قيلت فيك ، وتحاسب كل من أساء إليك، وترد على كل من هجاك، وتنتقم من كل مَنْ عاداك، فأحسن الله عزاءك أحسن الله عزاءك في صحتك وراحتك ونومك ودينك واستقرار نفسك وهدوء بالك، وسوف تعيش ممزقاً قلقاً مكدراً، مهموما مغموما، لم يرتح لك بال ولن يستقم لك حال.
قيل إن الإمام ابن حنبل سُئل: «أين نجد العافية؟» فقال: «تسعة أعشار العافية في التغافل عن الزلات»، ثم قال: «بل هي العافية كلها
إذا تذكرت مآسي الماضي فطنش
إذا طرقت سمعكَ كلمةٌ نابية فطنش
وإذا أساء لك مسيء فاعف وطنش
وإذا فاتك حظ من حظوظ الدنيا فطنش
لأن الحياة قصيرة والهموم كثيرة وكبيره، وعليك بقوله تعالى خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ).
والتغافل خلق الكرام وخلق الرجال
قال الحسن البصري رحمه الله:” ما زال التغافل من فعل الكرام ”
والتغافل والتطنيش فن وذوق واتيكيت
واسمعوا لهذه القصة حتى تدركوا ذلك، جاءت امرأة فسألت حاتم الأصم عن مسألة، وأثناء السؤال صدر منها صوت خجلت منه، قال حاتم: يا امرأة ارفعي صوتك، فأوهمها أنه أصمّ، فسُرَّت المرأة بذلك، وقالت: إنه لم يسمع الصوت فلُقِّب بحاتم الأصم، وهو ليس بأصمّ، بل تظاهر بأنه ضعيف السمع، مما أوحى للمرأة بأنه أصم، مراعاة لمشاعرها، ولأجل أن لا تقع في الحرج
هذا الأدب الذي وقع من حاتم الأصم يمكن أن نسميه ” فن التغافل ” ، وهو
فن من فنون الحياة التي كنت أتمنى أن تعلمه المدارس كمهارة حياتية مفيدة للفرد والأسرة والمجتمع.
فكم حدثت مشكلات وويلات ومصائب وطامات بسبب الجهل بهذا الفن
كم جريمة وقت بسبب ذلك!
كم من شخص دخل السجن بسبب ذلك وكم وكم وكم !
فالمتغافل إنسان مرتاح ومريح لمن حوله، يرى الخطأ فيحسبه بسرعة في دماغه ليتوصل لنتيجة أن المعادلة لا تستحق ، وأن من الحكمة ترك هذه الزلة وتعديها حتى تمر مرور الكرام وهو كأنه لم ير شيئاً.
قال الأعمش : التغافل يطفئ شراً كثيرا
وعندما نشاهد الواقع ندرك ان كثيرا من الناس لا يتقنون فت التطنيش ، فهو فن صعب ومعقد لمن لم يعتاد عليه ، فهو يحتاج إلى ضبط النفس وحساب للعواقب، ولذا فهو ليس بمهارة سهلة بل تحتاج إلى تدريب وتطوير لتصل للشكل المطلوب، فبعض الناس يولدون بمزاج متأنٍ، فيكون التجاهل موافقا لطبيعتهم. أما أصحاب الأمزجة النارية أو «المجاكرة» فهم في حاجة ماسة لكورسات مكثفة في فن التجاهل.
والتجاهل فن يقوم على حساب دقيق كما قلت فهو في ظاهره يمكن أن يبدو غباء أو غفلة او جبنا ،كما يظن البعض. ولكنه في الحقيقة حكمة وصبر وذكاء وشجاعة ، فليست كل هفوة تحتاج إلى تدخل، وليست كل زلة أيضا يمكن التغاضي عنها، ولذا فإن التغافل كما قلت يتوجب أن يضاف لكورس يسمى مهارات الحياة؛ ندرسه لطلابنا في المدارس كمهارة من ممهارات الحياة، وهنا يجب التفريق بين الغفلة وبين التغافل اذ أن بينهما فارقا كبيرا
فالأب والأم المتغافلان عن الهفوات الصغيرة يكسبان أبناءهما على المدى الطويل أكثر من هؤلاء الذين لا يتركون شاردة ولا واردة إلا ويعاقبون عليها. وهذا ينطبق على العلاقات العائلية والإنسانية كافة
ليس الغبي بسيد في قومه **** لكن سيد قومه المتغابي.
والتغافل أدب عظيم وخلق شريف تأدب به الحكماء ونوَّهَ بفضله العلماء ، فيجب على صاحب المروءة أن يتغافل ويتجاوز عن أهله وأصحابه و موظفيه إن هم قصروا بشيء ما ، فلا يستقصي مكامن تقصيرهم فيبرزها لهم ليلومهم ويحاججهم عليها ، وإنما يتغافل عن اليسير الذي يمكن تجاوزه
قال الحسن البصري : ما استقصى كريم قط !
قال الله تعالى عن نبيه صلى الله عليه وسلم لما أخطأت بعض أزواجه : { عرَّف بعضهُ وأعرض عن بعض } .
وقال سفيان : مازال التغافل من شِيَم الكرماء
هل جربت مرة أن تلاحظ نشوة شعورك حين تتغافل عن هفوة فعلها إنسان عن قصد أو دون قصد؟
• هل جربت قياس الرضا النفسي الذي تشعر به وأنت ترفع عن هذا الإنسان ألم الحرج أو الاعتذار؟
• هل قرأت في بريق عينيه العِرفان والتقدير والاحترام لما قمت به؟
• هل لاحظت الخجل الذي اعتراه حين التزمت الصمت وتظاهرت بالتغافل وعدم التأثر بما بَدَر منه؟
♦️ كل هذه لغات لا تفهمها إلا النفوس الراقية التي تقدر الشعور الإنساني ولا تريد أن تخدش بريقه ولا تكسر كبريائه ولا تحط من قدره ولا تنال من حيائه.
♦️ كل هذه محاضرات تربوية عابرة للقلوب لا تحتاج لترتيبات مُسبقة، ولا تستهلك زمناً، ولا تحتاج لوسائل تعليمية حديثة، ولا تحدها جدران قاعات.
♦️ كل هذه رسائل مُفعمة بتقدير الحب، والإبقاء على الود، وسلامة الصدر، وحسن النية، ولين الجانب.
♦️ كل هذه رسائل مضمونها أن ما بنته السنوات لا تهدمه الهفوات.
• ولقد ضرب نبي الله يوسف عليه السلام أروع الأمثلة في ذلك عندما تغافل عن تطاول اخوته في حقه. قال تعالى: ﴿ قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ ﴾ [يوسف: 77].
لقد علمتنا الشريعة الإسلامية أن نواجه أهل الشر بالعفو بالتسامح ، وبالصبر الجميل الذي لا شكوى فيه، وبالهجر الجميل الذي لا أذى فيه، وبالصفح الجميل الذي لا عتب فيه،
وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا
كن كالنخلة اذا رامها احد بالحجر رمته بالثمر
إن أفضل حل للمشكلة أن تنهيها من أول الطريق، لا تصعّد مع من أراد التصعيد، انزع الفتيل حتى تُخمد الفتنة، صب على النار ماءً لا زيتاً لتنطفئ من أول وهلة، ادفع بالتي هي أحسن وتصرف بالأجمل وأعمل الأفضل وسوف تكون النتيجة محسومة لصالحك؛ لأن الله مع الصابرين ويحب العافين عن الناس وينصر المظلومين.
إننا إذا فتحنا سجل المشكلات وديوان الأزمات ودفتر العداوات ، فسوف نحكم على أنفسنا بالإعدام، انغمس في عمل مثمر مفيد يشغلك عن الترهات والسفاهات والحماقات، إذا رفع سفيهٌ صوته بشتمك فقل له: سلام عليكم ما عندنا وقت، إذا نقل لك غبي تافه كلاماً قبيحاً من عدو فقل له: سلام عليكم ما سمعنا شيئاً قط.
أفضل رد على النقّاد والحسّاد هي الأعمال الجليلة ، والصفات النبيلة والأخلاق الجميلة،
علاقاتنا تدوم وتستمر بالتغاضي ، وتزداد انسجاما بالتراضي … لكنها تمرض بالتدقيق ، وتموت وتنتهي بالتحقيق .