ليبيا ضحية القذافي وتغول الإسلام السياسي…تخلي العالم وتدخل تركيا وقطر
العالم الآن – لا شك في أن نمط الثورة الذي شهدته ليبيا أفضى إلى واقع سياسي يصعُب السيطرة عليه، خصوصاً في ظل الانقسام بين نُخب الثورة وتشعب خلفياتهم وتقاطعها، والانتشار المُخيف للسلاح.
ويرى البعض أن جذور الأزمة الليبية تعود إلى الأخطاء التي ارتكبت بعد ثورتها، وفي مقدمها عدم التعامل مع مسألة انتشار السلاح والفوضى الأمنية بشكل سريع وناجع، بينما يربطها البعض الآخر بما هو أبعد وأقدم، ويرجعونها إلى تجميد الحياة السياسية في ليبيا في عهد معمر القذافي لأربعة عقود، وما قام به من تفريغ البلاد من النخب السياسية.
خطأ استراتيجي للناتو
تعتبر أطراف كثيرة في ليبيا أن المجتمع الدولي مسؤول عن الفوضى التي ولدها فراغ ما بعد القذافي، إذ ما إن قُتل القذافي حتى ترك ليبيا للفوضى.
يقول الباحث السياسي الليبي فرج زيدان إن “الأطراف التي تدخلت في ثورة ليبيا عام 2011 تدخلت لإسقاط نظام القذافي وليس لنشر الديمقراطية كما كانت تدعي، وهو أمر اعترف به زعماء بعض الدول على رأسهم الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، الذي قال إن الخطأ الأكبر الذي ارتكبه وندم عليه هو “التدخل في ليبيا”. بالتالي، المجتمع الدولي عقب تحقيق هدفه بمقتل القذافي ترك الليبيين، واضعاً خلف ظهره كل المبادئ التي استخدمها أثناء تدخله في ليبيا، مثل حماية المدنيين وإنهاء الدكتاتورية. لقد ترك ليبيا فريسة تيارات إرهابية وفاشية قتلت الليبيين وارتكبت أبشع الجرائم على مرأى ومسمع من العالم أجمع”.
تركة القذافي
يحمّل الباحث السياسي سامي الأطرش القذافي مسؤولية ما حل بليبيا بعده، قائلاً إن “ما مرت به ليبيا هو حلقة ضمن سلسلة طويلة من غياب الحياة المدنية والديمقراطية والعمل السياسي في فترة نظام القذافي، فثورة فبراير (شباط) كانت عنواناً للرفض الشعبي لمعاناة الماضي والنظام السابق وكل مفاهيمه بكل ما في هذه الكلمة من معنى، من دون وجود القواعد السياسية القيادية التي يمكنها أن تضع حجر الأساس لبناء الدولة”.
يضيف “المجتمع الليبي تبنى خلال هذه الفترة مفاهيم متناقضة تماماً مع ما كان يعيشه طيلة أربعة عقود من الدكتاتورية والقمع والتهميش، وطمح إلى نقيض الموجود مثل الدولة الديمقراطية التي يسود فيها القانون وتداول السلطة، والمشكلة أنه لا توجد حلول وسط في هذا الأمر، يعني نصف ديمقراطية ونصف تداول سلمي للسلطة”.
ويخلص الأطرش إلى أن “المشكلة هي أنه عندما اندفع الشعب الليبي إلى تطبيق هذه التجربة وقع المحظور بسبب غياب قيادات واعية ونخب ناضجة قادرة على ترجمة مشاعرها إلى تطبيق يتناغم مع هذه القيم الديمقراطية، والحالة التي نتجت من ذلك هي التخبط على المستويات كلها”.
النقاط الخمس
يتفق رئيس مجموعة العمل الوطنية خالد الترجمان مع رأي الأطرش، ولكنه يحدد الفترة التي شهدت تدمير القذافي الحياة السياسية، قائلاً “جذور الأزمة الليبية ليست مرتبطة بما حدث في ثورة فبراير وما بعدها، ووجهة نظري أن هذه الجذور تعود إلى ما حدث ليلة 15 أبريل (نيسان) عام 1973 عندما أعلن القذافي نقاطه الخمس المشؤومة التي جمد فيها الحياة المدنية والسياسية في ليبيا واعتقل قادة القوى الوطنية وزج بهم في السجون”.
ويرى الترجمان أن “تلك النقاط الخمس هي سبب ما عانته ليبيا في السنوات الثماني العجاف الماضية باعتبار أن تلك النقاط ألغت أو جمدت الحياة السياسية وشوهت ملامح الدولة لقرابة 40 عاماً، وصنع حالة غريبة من اللادولة وحكم الفرد، ما تسبب بانعدام الثقافة الديمقراطية والخبرة في الممارسة السياسية للأجيال التي تلت تلك المرحلة، وهي التي قامت بالثورة من دون أن تكون هناك بينها قيادات مؤثرة ومثقفة وقادرة على ضبط بوصلة الرأي العام ومنع الانزلاق إلى منحدرات خطيرة كما حدث معنا”.
يضيف “وأسهم القذافي أيضاً في تغول الجماعات الإسلاموية في ليبيا بعد الثورة، عندما عقد مع قادتها المصالحات الشهيرة في نهاية عهده وأخرجهم من السجون، ومنحهم فرصة التغلغل في مفاصل الدولة عبر مشروع ليبيا الغد الذي قاده نجله الذي كان يعد لوراثة عرش أبيه، سيف الإسلام. وهؤلاء عندما سنحت لهم الفرصة انقلبوا على القذافي والشعب الليبي معاً ودفعوا ثورته إلى هاوية التطرف والإرهاب”.
الإسلام السياسي والقفز على الثورة
يحمل الدكتور فرج زيدان جماعات الإسلام السياسي والجماعات المتطرفة مسؤولية أزمة ما بعد الثورة وانقسام المجتمع، قائلاً “بعد انتفاضة 2011 واستغلال تيار الإسلام السياسي هذه الثورة مع المجموعات المتطرفة المقربة من تنظيم القاعدة والميليشيات الجهوية التي أنشئت في مصراتة وطرابلس، كل هذه التيارات الرافضة للدولة استغلت حالة الهشاشة وسقوط مؤسسات الدولة لكي تحل محل الدولة، أي بمعنى أنها كانت ترفض وجود الدولة ومؤسساتها تحديداً مؤسستي الجيش والشرطة، ولم تعلن هذه النوايا خلال فترة الثورة بل كشفت عنها بعدها وبعد سقوط النظام”.
يروي خالد الترجمان، أمين سر المجلس الانتقالي السابق، أنه “بعد قيام ثورات ما يعرف بـالربيع العربي وسقوط النظام في شرق ليبيا وبعد إنشاء المجلس الوطني الانتقالي في بنغازي، الذي كنت أمين سره، بدأت جماعات الإخوان المسلمين في ليبيا التحرك للسيطرة على هذا الجسم الناشئ تمهيداً لما تبين بعد ذلك من مخطط مخيف كانت تعده للسيطرة على الحكم وإقصاء القوى السياسية في ليبيا سلمياً أو بقوة السلاح إن لزم الأمر، عبر أذرعها العسكرية التي كونت في الخفاء أثناء الانشغال بمجريات الثورة وحرب النظام وبدعم من قوى إقليمية ودولية”.
يضيف “سيطر الإخوان على مفاصل القرار السياسي والمالي وتضاعف في هذه المرحلة التدخل القطري والتركي في المشهد الليبي، وأسهم هذا التدخل في وضع أسوأ سيناريو من خلال مخطط متكامل للسيطرة على ليبيا”.
ويكشف الترجمان أن “المخطط بدأ في تلك المرحلة بشراء بعض أعضاء المجلس عبر الحقائب المليئة بالأموال، التي كانت تتدفق من الدوحة، التي قال إنها تراوحت قيمتها ما بين 250 ألف دولار و500 ألف دولار، وكثير من أعضاء المجلس حينها يعلمون بأمرها”. ويتذكر صدامات مع من وصفهم “بزوار الدوحة” الذين استلموا تلك الأموال، قائلاً إن بعضهم قام برد هذه المبالغ بعد فضح أمرها”.
بارقة أمل
يحمل الدكتور الأطرش المجلس الانتقالي مسؤولية فشل التجربة الديمقراطية الناشئة في ليبيا “عبر وضع وثيقة دستورية مؤقتة كانت معيبة”، بحسب رأيه. ويقول “الإعلان الدستوري الذي وضعه المجلس الانتقالي كان بداية الكارثة، فهذه البنية الدستورية التي وضعت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2011 لأنه جسد المفاهيم والقيم من دون العناية بالآليات اللازمة لتطبيقه”.
في عام 2012 أجريت انتخابات تشريعية في ليبيا انتخب بموجبها 200 عضو للمؤتمر الوطني العام. وتمت مراسم التسليم والتسلم بينه وبين المجلس الانتقالي بطريقة سلسة استبشر بها الليبيون.
ولكن رياح الوقائع أتت بما لا يشتهي الشعب الليبي الذي صدم في تلك المرحلة بما شهده من نشاط إرهابي للجماعات المتطرفة، وتوالت أعمال التفجير والاغتيالات الممنهجة لعناصر بصفوف الجيش والشرطة.
ويقول الترجمان عن تلك الفترة، إنه بعد السيطرة على المراكز المالية “بدأت جماعات الإسلام السياسي والجماعات المتطرفة الخطوة الثانية، وهي تفكيك بقايا القوات المسلحة، ومن هنا بدأت الحرب بين المؤسسة العسكرية والجماعات الإسلاموية”.
يضيف إنه ضمن المخطط المدعوم من تركيا وقطر كانت هناك خطة مبرمجة “لتصفية القيادات السياسية والعسكرية والمدنية التي تتعارض مع مشروع الإسلام السياسي، وبدأ باغتيال اللواء عبد الفتاح يونس، ووصل الأمر إلى اغتيال قيادات نسائية ليبية، ما تسبب بفوضى أمنية وفراغ أمني هو لب المشكل الليبي، بمعنى أن الأزمة الأمنية خلقت أزمة على الصعد كلها، وحتى الأزمة السياسية جوهرها أمني”.
مجلس النواب والتعقيدات
بعد عامين من التخبط والصراع وتدهور مخيف للوضع الأمني خرج المؤتمر الوطني من المشهد إثر خروج تظاهرات عارمة في غالبية مدن ليبيا طالبت برحليه وتنظيم انتخابات جديدة لاختيار مجلس نواب جديد. وهو ما تم وسط ظروف صعبة وانقسام شديد.
ورفضت تيارات الإسلام السياسي نتائج هذه الانتخابات وأصدرت المحكمة العليا في طرابلس قراراً قضى بحل مجلس النواب المنتخب في يوليو (تموز) 2014 والمنعقد في مدينة طبرق، والذي تمسك بنزاهة الانتخابات وشرعيته المستمدة من الشعب. وزادت حدة الاحتقان حتى وصلت الأمور إلى صدام عسكري بين كتائب مقربة من جماعات الإسلام السياسي ومناهضيها في العاصمة طرابلس. وتعقد المشهد بإطلاق قائد الجيش الذي عينه البرلمان في طبرق خليفة حفتر عملية عسكرية في بنغازي تحت اسم عملية الكرامة. وتحول الصراع السياسي إلى صراع عسكري.
وكانت النتيجة هي إعادة انعقاد المؤتمر الوطني العام المنتهية ولايته منذ مارس (آذار) 2014 في طرابلس، وفي 25 أغسطس (آب) 2014 أصدر المؤتمر الوطني القرار بتعيين عمر الحاسي رئيساً لحكومة الإنقاذ في ظل وجود حكومة أخرى في طبرق برئاسة عبدالله الثني المُكلف من مجلس النواب. وهي المرة الأولى التي تشهد فيها ليبيا أكثر من حكومة منذ سقوط نظام معمر القذافي في أغسطس 2011. إلا أنه من الضروري ملاحظة أن الحكومات التي سبقت حالة الانشقاق الصريح هذه لم تكن حكومات لها كثير من السيادة على أرض الواقع.
بعثة الأمم وحوار الصخيرات
عقب اتساع دائرة النزاع وتعقد الأزمة الليبية كلفت الأمم المتحدة بعثتها في ليبيا، التي أنشئت في 2011 بجمع أفرقاء ليبيا حول طاولة حوار سياسي في مدينة الصخيرات المغربية لبحث حل الأزمة.
ويرى الترجمان أن بعثة الأمم المتحدة أسهمت عبر ممثليها في “إرباك المشهد الليبي، من خلال فرضها على الليبيين بل وتهيئة المشهد للقبول بتيار الإسلام السياسي بعد نبذ الشارع الليبي له ولمشروعه، ومحاولة إيهام العالم أن المشكلة الليبية مشكلة صراع سياسي، وتخلت حتى عن مناقشة مسألة الاقتصاد والثروة المنهوبة ودورها في هذا الصراع وتجاهلت لب المشكلة، وهو الشق الأمني”.
ويقول الدكتور زيدان “بعد ذلك دخلت الأمم المتحدة المشهد السياسي الليبي عبر الحوارات التي أشرفت عليها بدعم من قوى دولية وإقليمية متصارعة وغير متوافقة على خط الأزمة، ما عمّق الأزمة. ونجحت التيارات التي انقلبت على المسار الديمقراطي عبر المسار الجديد الدولي في العودة إلى المشهد والسيطرة على الحكومة التي أنشئت بعد التوقيع على اتفاق الصخيرات وهي حكومة الوفاق”.
يضيف “هذه المجموعات التي سيطرت على المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق أبعدت الأطراف الأخرى التي لا تدين بالولاء لتيار الإسلام السياسي في المجلس، كما فعلت دائماً، وأدى هذا إلى تغول الميليشيات في مؤسسات صناعة القرار في طرابلس، وعززت تحكمها في المؤسسات المالية، ولم تقف عند هذا الحد بل وجهت هذه الأموال التي احتكرتها إلى دعم الجماعات الإرهابية
” اندبندنت “