الاضطراب النفسي يحدث بالتداخل مع الصحة النفسية وكلنا يعاني شيئاً منه!
العالم الآن – كان جوش كريشيفسكي متردداً بين اختصاصين هما الأنثروبولوجيا والإعلانات. لكنّه في النهاية حسم أمره بالتخلّي على الأنثروبولوجيا ظنّاً بأنها ستُسبب له “الوحدة والإفلاس”. ودخل عالم الدعاية والإعلان، ووجده رائعاً. وعلى الرغم من تولّيه حاضراً منصب الرّئيس التنفيذي لشركة “ميديا كوم” البريطانية، ما يزال كريشيفسكي يظهر بمظهر الأنثروبولجي المنبوذ وسط “رجال مجانين”. “كلّ ما في الأمر أنه لا يجدر بالمرء أن يكون متحيّزاً إثنياً أو أنانياً. ومن الضروري أن نُحاول فهم وجهة نظر الآخر”، بحسب كريشيفسكي.
في البداية، عندما كان في سنّ العاشرة، أراد كريشيفسكي أن يُصبح رجل إطفاء. وفي فترةٍ لاحقة، “رغبتُ في أن أكون ممثلاً”، لكنّ شقيقه الأكبر سبقه على تلك الدرب ولعب دور “شاب العلوم” المزاجيّ إلى جانب مورين ليبمان في إعلانٍ لمصلحة شركة “بريتيش تيليكوم” (“بي تي”). لكنّ كريشيفسكي يؤكّد تمتّعه بقدرة مميّزة على إلقاء الخطابات. وبحسب كلماته، “لديّ القدرة على إظهار عيوبي وأخطائي على المنبر من دون حرج. وهذا الأمر يلقى صدىً جيداً بين الناس”.
وبعد نيله شهادةً في الأنثروبولوجيا الاجتماعية من “جامعة سوسكس”، وعمله لحساب عددٍ من الوكالات المختلفة وتأسيسه شركته الخاصة، قرر كريشيفسكي في 2014 الانضمام إلى “ميديا كوم” بوصفها وكالة الإعلام الأولى في المملكة المتحدة والمسؤولة عن تنظيم حملة “حان وقت الكلام” لمصلحة مؤسُسة “مايند” الخيرية للصحة العقليّة. وفي سنّ الثالثة والأربعين، بدا كريشيفسكي منفتحاً وواضحاً في حديثه عن مشاكله النفسيّة ومعاناته الأرق والقلق المزمن وذلك لايرجع إلى مجرد كونه “مشجّعاً صبوراً لنادي أرسنال لكرة القدم”، بحسب وصفه.
وفي مكتبه الكائن في “هولبورن” بلندن، يورد كريشيفسكي إنّ “ما يُتوّقَع منّا هذه الأيام، بات كبيراً. وعندما لا نعمل، نُفكّر في العمل. نحن في حالة تأهّب دائم ويُمكن الاتصال بنا في أيّ وقت”، ويشير إلى أنه أيضاً يجد صعوبة في تحويل تفكيره عن العمل. ولمّا أدرك أنّ ما يشعر به لا يزيد عما يعانيه آخرون من حوله، قرّر التركيز والحرص على حسن صحة فريق عمل “ميديا كوم” القوي المُكوّن من 1100 فرداً في المملكة المتحدة. وفي خطوة أولى، بادر كريشيفسكي إلى حظر تبادل الرّسائل الإلكترونية المتعلّقة بالعمل بعد الساعة السابعة مساءً وفي عطل نهاية الأسبوع، واستحدث ترتيبات عمل أكثر مرونة. “إذا كنتَ تُريد مغادرة المكتب عند الساعة الرابعة لتُقلّ أطفالك من المدرسة، فلا بأس في ذلك”، يُوضّح كريشيفسكي.
العاملون في مجال الإعلانات الهادفة بشكلٍ أساسي إلى ترويج صورٍ إيجابية وبراقة، يقعون في الشعور بالعجز والإنهزام إزاء الحاجة المستمرّة إلى الظهور بأفضل صورة وتجسيد الكفاءة العالية والثقة بالنفس. إذ يُفترض بهم جميعاً أن يتمتّعوا بصحّة جيدة وحالة بدنية لائقة، ويكونوا سعداء ومتفوّقين. ومن المفترض بهم كذلك أن يكونوا على درجة عالية من الروعة، فتكون الأخيرة لديهم فوق كل اعتبار اخر. ولذا، أطلق كريشيفسكي برنامجاً متكاملاً عن الصحة النفسيّة داعياً العاملين في الشركة إلى كتابة “قصتي مع الصحة النفسيّة” وتشارك تلك القصص فيما بينهم. وبالنتيجة، “غيّر ذلك الأمر وجه الثقافة السائدة بين ليلة وضحاها”، وفق ما يؤكّد كريشيفسكي. وبفضل ذلك البرنامج، لم يعد مُبرراً أن يعتقد الموظفون بأنّ كل من حوله يقضي أوقاتاً ممتعة في الأوقات كلها.
ويضيف، “لو سألتُ أحدكم كيف الحال، لا أريد منه أن يُجيبني بعبارة “أنا بخير”. يأتي كلام كريشيفسكي هذا من منطلق أنه لا بأس بألا نشعر بأننا على خير ما يرام، وأنّ الروعة تكمن في ألاً نكون رائعين على الدوام. وبحسب كلماته، “كلّنا لديه “اضطراباً نفسيّاً” لأن ذلك يحدث بالتداخل مع الصحة النفسيّة فيكون جزءاً منها… من مسؤوليتي أن أُزيل وصمة العار عن الإصابة باضطراب نفسي”.
ولأجل التخلّص من عادته بالتفكير كثيراً في كلّ صغيرة وكبيرة، لجأ كريشيفسكي إلى تقنيات مختلفة من بينها التأمل، إلا أنّ علاجاً واحداً عاد بالمنفعة عليه. وبحسب مبادئ “الذهن/ الفكر/ الوعي”، نحن نفكّر بصورةٍ واعية في الجزء الأمامي من أدمغتنا مع العلم بأنّ الجزء الخلفي منها يربطنا بكلّ ما حولنا، ضمن ظاهرة أسماها العالم النفسي السويسري الشهير كارل يونغ “اللاوعي الجماعي” أو ما نسميه “الذهن” في نظامنا. “أُحاول التفكير في الجزء الخلفي من رأسي… عندما أقوم بذلك، أراني أبتعد عن الأنانية وأرى نفسي صغيراً وغير مهم”، بحسب كريشيفسكي. كذلك يُشدّد على أنه كلّما قلّ تركيز الواحد منّا على أنانيته، تحسّن أداؤه في العمل، ولو كان عمله في مستوى تحمّل مسؤوليات الرئيس التنفيذي.
أمّا نهج كريشيفسكي الآخر في الحياة، فيختصره بعبارة “حاول أن تكون العكس”. يظهر أنّ قلقاً خاصاً يُساوره بشأن مسعانا الدائم والمستمرّ للارتقاء بحياتنا إلى مستوى صورة نمطية مفترضة بشأن ما يتعيّن علينا أن نكونه. “يظن الرّجال أنه يبنغي عليهم أن يكونوا شبيهين بجايمس بوند، بمعنى أن يكونوا أقوياء وغير قابلين للانهزام وغير محتاجين لأحد ومتكتّمين على مشاعرهم وأحاسيسهم. وبالنسبة لي، العكس تماماً هو الصحيح… على القائد أن يكون قادراً على التعبير عن ضعفه، إذ من شأن ذلك أن يمدّ الأشخاص من حوله بالقوّة، بسبب الواقعية الشديدة في ذلك التعبير”.
ومن المسائل التي تثير قلقه أيضاً ، تبرز مسألة الانتحار. وتبعاً لذلك، ارتأى أن يحضر إلى الشركة شخصين هما جوني بنجامين، الرّجل الذي عدل عن رغبته بالقفز من أعلى جسر واترلو، ونيل لايبورن، الرّجل الذي أقنعه بالعدول عن رغبته، كي يتحدّثا إلى الموظفين في إطار لقاءٍ بعنوان “البحث عن الرّجل أعلى الجسر”. إذ يعي كريشيفسكي جيداً معنى الإحساس بـ”اللامعيارية” بمعنى عدم الالتزام بالمعايير أو التغريد بحرية خارج السرب، وقد اعتبره عالم الاجتماع إميل دوركهايم دافعاً أساسياً للشروع في الانتحار. “إن بالغتَ في التركيز على نفسك، تفقد إحساسك بالارتباط بالعالم المحيط بك. عليك أن تُفكّر باستخدام الجزء الخلفي من رأسك وليس مقدمته فحسب”، وفق كريشيفسكي.
قبل كريشيفسكي، كان لدى شركة “ميديا كوم” شعار يُمثّلها هو “ليكن الناس أولاً كي نحصل على نتائج أفضل”. ولما انضمّ كريشيفسكي إلى صفوفها، شرح للمسؤولين فيها أنه “لا بد للأمور أن تكون معكوسة. بمعنى أننا إذا وضعنا اهتمامات الناس في المقام الأول، فسنحصل منهم على الخدمة التي نحتاجها”. لا بدّ من إعداد دراسة جدوى تُعنى بحسن الحال. في المقابل، يتطلّع كريشيفسكي بشدّة إلى النتائج، لكن ليس على حساب صحة الأشخاص. “لا تُخطئوا في فهمي، توقعاتي عالية، لكن ليس عليكم أن تكونوا في ذروة أدائكم طوال الوقت. ليس عليكم أن تكونوا أشباهاً لعمل شركة “أوبر” للسيارات المشتركة تحت الطلب”.
يأخذ كريشيفسكي دوره كمتحدث عن الصّحة النفسيّة على محمل الجدّ. تلك الليلة، كان في طريقه إلى مجلس العموم لمناقشة الاقتراح القائل بأنّ “سلوك العملاء يضع الصحة النفسيّة لموظفي الشركات في دائرة الخطر”. كان في الجانب “المُعارِضْ” للنقاش، مردّداً عبارة أن الخطأ ليس خطأهم بل خطأنا. وانطلاقاً من تلك المعطيات، أنشأ نظاماً لـ”حلفاء الصحة النفسيّة”، من بينهم 50 حليفاً في لندن وحدها. ومن شأن أولئك الأفراد بشاراتهم الخضراء المميّزة، تشجيع الناس على التحدّث إليهم، سواء عن صحتهم النفسيّة أو بشأن مخاوفهم.
“علينا أن نتقبّل حقيقة أننا مجموعة من الأشخاص غير الأسوياء”، يختتم كريشيفسكي. “لا أريد أن أبدو كمن يردد مقولات الهيبيين، لكن تخيّلوا لو كان العالم برمّته على تلك الشاكلة، أما كان ليكون مكاناً أفضل ممّا هو عليه؟”
© The Independent