رحلتي في التعرّف على الآخر – زينة محمد الجانودي

0 491

العالم الآن -ولدْتُ ونشأتُ في بيروت ضمن بيئة سنيّة متديّنة زرعَتْ في قلبي حبّ الله وحبّ النبي محمد صلى الله عليه وسلم ودرستُ في مدرسة “خديجة الكبرى” التابعةلجمعية” المقاصدالإسلامية” التي أعتزّ وأفتخر بأنّي من بناتها .

تعلّمتُ فقه وعقيدة أهل السنة من مدرستي وعائلتي والبيئة التي أنتمي إليها، ولم أهتم بالتعرّف على الشيعة أو المذهب الشيعي، وكان كلّ ما أعرفه عنهم بأنّهم يقيمون مراسم عاشوراء، ونحن تلامذة في المدرسة كنّا نردد على حسب تسميتنا أغاني النّدبيات ونندب ونقلدّهم ونقوم بهذا بهدف التسلية ولكن لم يكن لدينا كره أوحقد لهم ولم ننشأ أبدا على كره آل البيت، بل على العكس نشأنا على حبهم مع وجود تقصير في التعرّف عليهم أكثر و في التقرّب منهم. وكنت أعتقد أنّ أهل السنة هم على الحق فحسب وهم من يتّبعون فقط سنة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ،وأنّ الشيعة يتبعون الإمام علي وابنه الحسين ويكرهون ويلعنون أصحاب النبي أبا بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وزوجة النبي عائشة.

كبرتُ على هذا، ولكنّني وصلت لمرحلة عمريّة بدأ تفكيري وعقلي يتطوّر ويصبح لديه حافز الحشريّة وبدأتْ عدّة تساؤلات تراودني …

لم الشيعة يحبّون إلى هذا الحدّ الحسين وآل البيت؟

ولماذا يبكون في ذكرى عاشوراء على مأساة الحسين؟

لماذا يصلّون على حجرة صغيرة ؟ ولا يكتّفون أيديهم مثلنا؟

لماذا يتأخرون بالإفطار بعدنا؟

لماذا ولماذا وهل من المعقول أنّ كل الشيعة في لبنان وكل بلدان العالم ومنهم الشيخ والطبيب والأستاذ والكاتب والأديب … أغبياء ولا يفقهون الدّين الإسلامي الصحيح الذي يتّبعه أهل السنة .

ثم بدأ الصراع السني والشيعي في لبنان يزداد حدّة بعد اغتيال الشهيد رفيق الحريري رحمه الله .

وأصبحت النفوس متشنجة والكره والحقد متغلغلا في القلوب وقد دفعني ذلك لأبدأ برحلتي في التعرّف على الطرف المسلم الآخر لأجد أجوبة لتساؤلاتي .

لماذا الشيعي مختلف عني ولماذا هذا الكره والحقد؟ أليس كتابنا واحدا وهو القرآن أليس نبينا واحدا وهو النبي محمد ألا يصومون معنا في شهر رمضان؟ ألا يصلّون ويكبرون ويركعون ويسجدون؟ ألا يذهبون معنا إلى الحج في مكة ؟

والأهم السؤال بل الوجع الذي كان يسبّب لي الحزن و القلق لماذا أبناء الاسلام يتفرّقون عن بعضهم والحقد يملأ قلوبهم أهذا يرضي الله والنبي محمد أهذه هي رسالة محمد التي هي أمانة تركها لنا ؟

تقصّدتُ أن أتعرّف على أصدقاء شيعة من العامّة ومن الفقهاء وحتى من الأسياد …

تجرّأتُ وسألتُ كل ما كان في داخلي من تساؤلات.

البعض لم أجد عنده الأجوبة الكافية، والبعض وجدتُ عنده نفس الكره ونظريّة الأحقّية والصّوابية الموجودة عند بعض أهل السنة، لم أستسلم بل تابعت المسيرة لجأت إلى الكتب المعتدلة التي تعرّفني على عقيدة وفقه الشيعة ومقارنتها بالمذاهب السنية.

هناك اختلاف نعم كما يختلف الشافعي عن الحنفي وعن المالكي والحنبلي ولكنّ التقارب كبير وكبيرجدا .

عرفتُ أنّ السني صلاته صحيحة إذا كتّف يديه أو أسدلهما وأنّ هذا الحجر الصغير ليس مقدسا بل هو اجتهاد عند الشيعة في الصلاة على تربة طاهرة.

وأنّ الشيعي يتأخّر قليلا عن السني في الإفطار لأنّ الغروب عنده يتمثّل بغياب القرص الشمسي كله أمّا السني فقط بأول غياب جزئي للشمس.

قرأتُ أغلب الفتاوى الصادرة من مرجعيات شيعية مهمة تحرّم لعن وشتم الصحابة وزوجات النبي …

ذهبتُ إلى مساجد الشيعة وتأكّدتُ بأنّ الشيعة لديهم نفس القرآن الذي نقرأ به ولا وجود لمصحف فاطمة الذي يُروّج له بعض الجهلاء بأنّهم يستبدلونه بالقرآن.

كما بحثتُ وقرأت ُعن الكثير من التجارب والكتابات في الوحدة الاسلامية و ووجدتُ أنّه كان هناك تواصل بين الأزهر الشريف والنجف الأشرف وقرأتُ فتوى موثّقة لشيخ الازهر “شلتوت “تنص بجواز التعبّد بالمذهب الجعفري الشيعي واعتباره كسائر مذاهب أهل السنة.

وبعد البحث والتدقيق واللجوء إلى علماء وسطيين من السنة والشيعة،وأخصّ منهم بالذكر السيد “وليد البعاج” وهو من علماء النجف الأشرف وباحث ومحاضر في الأديان المقارنة، ورئيس مؤسسة “إنسان للحوار بين الأديان”،وقد التقيتُه في بيروت أثناء دراساته العليا في جامعة”القديس يوسف اليسوعية”، وكان له دور مهم جدا في تجربتي هذه بالتعرّف على المذهب الشيعي إذ كان من أهم المشجعين لي في أن أخوض عباب المواجهة مع ذاتي ومع الآخرين بالوقت نفسه. وآمنَ بقدرتي على ذلك فما ادّخر وسعا بدعمي من أول مسيرتي ومن أجل إصدار كتابي فزوّدني بالوثائق التي تكشف التواصل الشيعي السني، ومازال دعمه مستمرا لي إلى الآن.

وبعد أن نضجت أفكار المعرفة في عقلي وتطوّرت قدراتي بتوسّع اطلاعي وقراءاتي، وتواصلي مع الآخر المختلف،قررتُ أن أضع ما وصلت إليه بكتاب اسمه “التقارب بين السنة والشيعة ضرورة إسلامية أسس لها النجف والأزهر”.

فالكتاب هو عبارة عن إضاءة لمواضيع متفرّقة ومختصرة، و بيان لبعض المشتركات،ونماذج واضحة، تكشف أنّنا واحد فلماذا نتقاتل، وتبيّن أنّ المذاهب الإسلاميّة في واقعها متقاربة، وذلك لوحدة مرجعيّتها واشتراكها في الأصول والمعالم الأساسيّة للدين. وعرضتُ فيه بعض القضايا الفكرية والعقائدية والفقهية على نحو الإيجاز، كأساسيّات الدّين الإسلاميّ التي يتّفق عليها الشيعة والسنّة، والوقوف عند قضيّة شتم الصحابة وموقف المذهب الشيعي منه ،وقضيّة نفي تحريف القرآن كما جاءت عند علماء الشيعة، وفضل أهل البيت عند أهل السنّة ،وعرضتُ أيضا بعض القيم الأخلاقية الجامعة بين السنّة والشيعة، وتطرّقتُ إلى أهم قضيّة تجمع بين المسلمين وهي القدس وفلسطين، وختمت الكتاب بإظهار التواصل بين المدرستين( النجف والأزهر) واستعراض الرسائل المتبادلة بين علماء الشيعة والسنّة .

فالهدف من الكتاب هو أخلاقي وإنساني بل واعتبرته واجبا شرعيا ،ولم يكن الهدف أيّ ربح مادي.

وقد أهديتُ كتابي للنبي محمد لأنّه هو القدوة وهو صاحب رسالة المحبة والتسامح والاعتدال ومايحصل من عداوة وكره بين المسلمين لا يرضي رسول الله.

ثم بدأتُ بعد ذلك رحلتي العملية الجدّية.

وقد شكّل صدور الكتاب مفاجأة واعتراضا في محيطي وبيئتي السنية ،وردة فعلي كانت آنذاك بالرجاء بأن يقرأوا و يتعرّفوا على الآخر ولا يحكموا من دون الاضطلاع .

كانت مهمة صعبة وتحتاج إلى جرأة ولكنّها ليست مستحيلة بل تحتاج لصلابة وتصميم وقوة إرادة

وكان هذا التصميم وإكمال المسيرة وعدم الاستسلام نابعا من إيماني بأنّني ما أقوم به يرضي الله ويرضي النبي لأنّ هذا ما دعانا إليه الإسلام الوحدة والمحبة والتلاحم والاعتدال.

و بعون من الله وببركة دعاء أمي رحمها الله التي كانت تدعمني في كل خطوة والتي توفّت بعد شهر من توقيع كتابي، ولأنّ النية صادقة لاقى الكتاب نجاحا. ووصلت سيرتي الذاتية إلى العراق ودعيتُ من قبل العتبتيْن الحسينيةوالعباسية إلى زيارة كربلاء للمشاركة في مهرجان ربيع الشهادة الثقافي العالمي الرابع عشر.

ومن هنا بدأتُ برحلة ثانية غيّرتْ وأثرتْ في مسيرتي

وبدأ الحديث الذي كنت أتوقّعه من محيطي بأنّني ذاهبة للتشيّع وبدأت التحذيرات التي كانت على شكل نصائح مبطّنة .

كنت أردّ عليها بالابتسامة والهدوء لأنني على ثقة تامة لأيّ هدف ورسالة ذاهبة.

وصلتُ النجف وزرتُ مقام الامام علي بن أبي طالب عليه السلام أحسستُ بقوّة وعظمة لا توصف، وكأنني أمام برّ الأمان والسند لم أشعر إلا ودموعي تذرف بهدوء تحمل معها الراحة الممزوجة بالأمان.

قلت لابن عم الرسول يا علي يا ابن عم رسول الله يا من كنتَ سندا له، إن كان ما أقوم به خيرا لدين محمد ثبتني وشدّ من عزيمتي بجاه حبيبك النبي محمد صلى الله عليه وسلّم.

انتقلتُ بعدها إلى كربلاء المقدسة ونزلت في المكان المخصّص لنا ولاقيتُ حسن الضيافة والشهامة من الشعب العراقي الأصيل، وكان همهم تأمين الراحة التامّة لنا باعتبارنا زوّار الإمام الحسين عليه السلام

وكان المكان قريبا من مقام الإمام الحسين،فانطلقتُ بعدها إلى زيارة مرقده الطاهر، وبهرتُ في بداية الزيارة بجمال وروعة الهندسة في ثنايا هذا البناء المذهل والنظافة والرّوائح العطرة التي تفوح فتنعش الرّوح،وكان الحرم المطهر مزدحما بالناس من مختلف الألوان والأجناس أمّا عن الإحساس الروحي فهو الشعور بروح النبي تعم المقام، وكيف لا وهو حفيد حبيب الله أحسست براحة نفسية عجيبة يعلوها الاطمئنان وسموّ النفس .

ثم مشيتُ بين أبناء كربلاء ارتديتُ فقط العباءة العادية وليس عباءة الرأس كما يسميها أهل العراق، والتي لا تجد امرأة في كربلاء إلّا وترتديها فكنت متميّزة بعباءتي وبمنديلي العادي الملوّن الذي ارتديه عادة في لبنان .

كانت هناك نظرة استغراب لا تخلو من الاحترام ولاتنمّ عن حقد أو عداء، لم ألتق بأناس معقدين بل أناس اعتياديون يتميّزون بالبساطة والأريحية نظراتهم وعباراتهم تحترم كل من يأتي إلى كربلاء وتعتبره ضيف الإمام الحسين عليه السلام.

وفي ليلة الجمعة ذهبت عند صلاة المغرب إلى حرم الإمام الحسين مع بعض السيدات الشيعيات اللواتي تعرفتُ عليهم في المهرجان، وكنّ خير رفقة وأخوة والدليل لي لأنهن زرنْ كربلاء أكثر من مرة .

دخلنا وجلستُ بين النساء اللواتي كنّ يوزعن بمحبة وابتسامة للحضور التمر والحلويات وقد أحضرنها من منازلهنّ وكانت بجانبي امرأة عراقية سألتني من أي بلد أنتِ أجبتها أنّني من لبنان ففرحتْ فرحا شديدا قائلة إنّ شيعة لبنان” بجننوا” ابتسمت دون أيّ تعليق وأذّن المؤذن للصلاة سألتني إحدى السيدات اللواتي يرافقنني، هل ترغبين بالصلاة معنا صلاة المغرب والعشاء؟ فأجبت طبعا أرغب بذلك .

فسألتني، هل عندك مانع في الصّلاة خلف إمام شيعي؟ قلت لها بل على العكس وما الفرق بين إمام سني وإمام شيعي ولكن سأصلّي كما أصلّي بعقيدتي السنية ليس تعصبا ولكن كي لا أشعر بأنني أخادع أو أجامل. قالت لي صلّي كما أنت، و نوينا للصلاة كتّفت يديّ فوق بعضهما و طبعا لم يكن عندي التربة لأصلي عليها كنت أسجد على الأرض.

و انتهت الصلاة،النساء لم يسلّمْن في ختام الصلاة أمّا أنا سلّمت على كتفي اليمين وكتفي الشمال، انتهت الصلاة ولم يوجّه أحد لي أي اعتراض أو انتقاد ولكن المرأة العراقية التي سألتني من أين أنا وكانت بجانبي نظرت إليّ مستغربة قائلة أنتِ من أين من لبنان ألستِ من الجنوب ؟

أجبتها بأنني سنية من بيروت ومحبة لآل بيت رسول الله ،ابتسمتْ وقبّلتني قائلة أهلا وسهلا بك في ضيافة الإمام الحسين عليه السلام .

قبل أن أذهب للعراق كنت أعتقد أن الشيعة يذكرون علي أكثر من النبي محمد ….

لا أنكر أن هناك البعض ممّن قد يبالغون …

ولكن لم أكن في جلسة إلا وذكر بشكل متكرر النبي بالصلاة عليه وعلى آله.

وحان موعد الجلسة التي أريد أن ألقي فيها كلمتي حول التقارب بين السنة والشيعة ومحبة آل البيت عند أهل السنة ،وماورد عندهم من تقدير لأهل بيت النبي بالإضافة إلى ذكر الشعور والإحساس الذي رافقني أثناء زيارة الأماكن المقدسة، وكانت كلمة مؤثرة صادقة من القلب وكان لها صدى محببا عند كل من سمعها.

وانتهت رحلتي لكربلاء والنجف وأعادتني الطائرة إلى مسقط رأسي إلى بيروت الحبيبة والكلّ كان بانتظاري ليسمع عن رحلتي وماذا حصل معي ورويتُ لهم التفاصيل كلها بجزئيّاتها وحذافيرها والأهم الذي أردتُ أن أوصله لهم أن زيارة مقامات كربلاء المقدسة لا ينبغي أن تكون حكرا على الشيعة في العراق فقط أو في أي بلد آخر بل يجب على السنة زيارة هذه المقامات، وزيارة حفيد رسول الله الحسين عليه السلام لأن آل البيت لكل المسلمين سنة وشيعة.

وأنّ السنّي الذي يذهب للعراق ليس بالضرورة أن يعود شيعيا وها أنا أكبر شاهد و دليل حيّ .

وبعد الكتاب وكربلاء استمرّ عملي في التقريب والوحدة من خلال مقالاتي التي أنشرها فسلاحي السلميّ هو الكلمة الطيبة آملة أن تكون هذه الكلمة شمعة تضيء في وسط هذا الظلام .

سُئلتُ لماذا مازلتِ مستمرّة في هذا العمل وماهو الربح الذي تجنيه ؟

قلتُ هذا العمل منذ بدأتُ فيه وأنا أشعر بسعادة وراحة وطمأنينة فهل أترك هذه المشاعر العظيمةالتي يتمناها الكثير من الناس؟

وأقول وأنهي بأنّ هذا العمل الإنسانيّ قد حبّبني أكثر بديني دين الإسلام وزادني تعلّقا بحبيبي النبي محمد صلى الله عليه وسلّم .

وأطلب من الله تعالى أن يشدّ بعزيمتي ويقويني لأستمر في هذا العمل….

مقالات ذات الصلة

اترك رد