العالم الآن – في أوج الحرب اللبنانية العام 1980 أصدر الشاعر والكاتب الفلسطيني رسمي أبو علي مجموعة قصصية ذات عنوان طريف و”مستغرب” “قط مقصوص الشاربين إسمه ريس” في بيروت التي كان يقيم فيها مناضلاً في صفوف “منظمة التحرير الفلسطينية” وموظفاً في “دائرة الإعلام والثقافة” التابعة لها. وسرعان ما عرفت المجموعة نجاحاً ولقيت ترحاباً في الصحافة اللبنانية والفلسطينية الصادرة في لبنان. فالقصص التي ضمتها ولا سيما القصة التي تحمل المجموعة عنوانها، بدت غريبة كل الغربة عن أجواء الأدب الفلسطيني الرائج حينذاك والموسوم بالطابع النضالي والحماسي و”الفدائي”، والمشبع بروح الثورة والكفاح ضد إسرائيل. كانت هذه أول قصة يكتبها أبو علي بعد نصوص له عدة، ونشرت في مجلة “الآداب” العام 1977 بعدما رفضت مجلة “شؤون فلسطينية” نشرها، علماً أن الشاعر محمود درويش رئيس تحرير المجلة أعرب للكاتب الأربعيني عن إعجابه بها، معتبراً أياها من أجمل عشر قصص قرأها في حياته، لكنه لا يستطيع أن ينشرها في مجلة سياسية جادة وذات بعد فلسطيني فكري رصين. وكان الوسيط في نشرها في “الآداب” الرصينة والرائدة، الروائي الياس خوري الذي كان مدير تحرير مجلة “شؤون فلسطينية”. حملت القصة تلك كما المجموعة، رؤية جديدة إلى الأدب الفلسطيني الملتزم والمناضل، وتخلت عن نبرته العالية والخطابية والإيديولوجيا، وعن الجدية شبه المتجهمة. وبدت على مقدار كبير من النضج فنياً وأسلوبياً. أكد رسمي في قصصه تلك أن الالتزام يمكن أن يكون طريفاً وساخراً وعبثياً وعلى علاقة بالحياة اليومية والهامش، وأن يتناول هوامش الثورة والثوار.
كان رسمي أبو علي في الأربعين من العمر عندما كتب هذه القصة معلناً دخوله عالم الأدب الاحترافي. قد يكون تأخر، ربما قليلاً أو كثيراً، لكنه رحل أمس في عمان عن 83 سنة من غير أن يشعر يوماً هو وأصدقاؤه بأنه تقدم في السن وبات مدرجاً في خانة الشيخوخة. فهو ظل طوال حياته طريفاً وساخراً وهامشياً، ينتقد ويعلق ويحتج لا سيما على الظروف التي آلت إليها الثورة الفلسطينية والخيبة التي نجمت عن الهزائم المتوالية فلسطينياً وعربياً.
مواجهة محمود درويش
إلا أن رسمي أبو علي ذو النزعة الشعرية الباطنة لم يكتف في كونه قاصاً على الرغم من نجاحه في هذا اللون، فهو سرعان ما انتقل إلى جبهة الشعر، وراح ينشر قصائده هنا وهناك في الصحافة اللبنانية والفلسطينية ولا سيما صحيفة “النهار” التي كان يدير صفحتها الثقافية الشاعر شوقي أبي شقرا، وهو شرّع أبواب هذه الصفحة أمام كل الشعراء الفلسطينيين والعرب المناضلين والمهمشين ونشر قصائدهم كما يليق بها. إلا أن “الخبطة” الشعرية حصلت مع صدور مجلة “رصيف81” من قلب منطقة الفاكهاني معقل المنظمة الفلسطينية، وشارك في تأسسيسها رسمي أبو علي وجمع من الشعراء الفلسطينين واللبنانيين العرب الشباب من أمثال علي فودة ومهدي قاسم وأبو روزا وولف وغيلان وسواهم. استقطبت هذه المجلة في حلتها البسيطة والفقيرة ، أحدث القصائد والنصوص التي كان يسعى أصحابها إلى الخروج من حصار رعاية المؤسسة الفلسطينية الرسمية وثقافتها، وإلى فتح نوافذ الشعر على الحياة اليومية والتفاصيل المعيشة والهوامش الحية. ولقيت المجلة نجاحاً كبيراً في الأوساط الأدبية والثقافية وخلقت حالاً شبابية شبه طليعية. وبدت كأنها تعارض “سلطة” محمود درويش الشعرية المكرسة شعبياً ورسمياً والمدعومة من المنظمة الفلسطينية. أثارت المجلة ومشروعها حفيظة الشاعر محمود درويش الذي كان يقيم في بيروت، فكتب مقالاً يقول فيه:”هناك من جعل الشعر نكتة الصباح اليومية، أنقذونا من هذا الشعر”. أحدثت المجلة شرخاً في الشعر الفلسطيني الذي كان يكتب في بيروت حينذاك، منتصرة للمهمشين والمعارضين و”الفوضويين” على طريقة الدادائيين والسورياليين. وكان يكفي اختيار “الرصيف” عنواناً لها ليتأكد هدفها الثوري. وكتب أبو علي في العدد الأول: “لا مسافة بيني وبين الرصيف، فأنا الرصيف”. وكان على “رصيف” أن تواجه حملات عدة قام بها ضدها مثقفو التنظيمات، وراحوا يفسرون مفردات مثل الهامش والفوضى والانتماء وفق تأويلهم السياسي والأيديولوجي، متهمين “الرصيفيين” بالتخلي عن الكفاح المسلح والعصيان والتمرد والشغب. إلا إن المجلة لم يقدّر لها الصمود فلم يكد يصدر العدد الثاني حتى باشرت دولة الاحتلال الإسرائيلي اجتياحها العام 1982 وراحت تقصف بيروت والمناطق بوحشية، محدثة خراباً رهيباً. قضى علي فودة تحت القصف وتشتت الشعراء الآخرون ودُمّرت أرصفة بيروت وشوراعها ورحل الفلسطينيون عبر البحر.
عاد رسمي أبو علي إلى الأردن وأقام في عمان، مواصلاً حياة الصعلكة والإبداع، مستسلماً لمزاجه الشعري والقصصي، ولكسله الذي يشبه الكسل الذي تحدث عنه البير كامو قائلاً:” إن الكسالى هم المبدعون الحقيقيون”. لم يكتب رسمي كثيراً لكنّ ما أصدره من قصص وشعر يحمل معالم تجربة فريدة، تضرب في أرض الحداثة العربية، وتتميز بمقارباتها الأسلوبية والفنية واللغوية، عطفاً على ما تختزن من أحوال ورؤى وأفكار ومواقف تصب في عمق الواقع الإنساني، الفلسطيني والعربي. فأعماله الأدبية الكاملة لا تتخطى المجلد الواحد لكنها تمثل تجربة متفردة فلسطينياً وعربياً، سواء في عالم القصة القصيرة النزقة والساخرة والعبثية أم في الشعر القائم على معايشة الواقع مختلطا بالحلم، والبعيد عن النرجسية والنبرة العالية. وتضم الاعمال الكاملة : “قط مقصوص الشاربين اسمه ريّس” (قصص 1980)، “لا تشبه هذا النهر” (شعر 1984)، “حكاية طويلة اسمها أوميدا” (قصص1990)، “ينزع المسامير ويترجل ضاحكاً” (قصص 1997)، “ذات مقهى” (شعر1988)، “تلك الشجرة الجليلة… ذلك الانحدار السحيق” (سيرة ذاتية 1999). وكتب الشاعر أحمد دحبور على الغلاف كلمة تمثل حقيقة هذه التجربة قائلاً: “يخلط الجدّ بالهزل، فمزاحه جدّ، وجدّه مزاح. ولكنه في ذروة جنونه المتعمّد يدلف شعراً، وقد نتف، مع زملائه في “الرصيف”، لحية الشِّعر السائد شَعرة شعرة”. وقد كتب رواية واحدة عنوانها “الطريق إلى بيت لحم” (1990).
في السنوات الأخيرة التي قضاها في عمان مرتاداً بعض مقاهيها على غرار ما فعل في بيروت، كان رسمي يدوّن ما يشبه التأملات واليوميات والملاحظات على الفيسبوك، ويشارك من بعيد في السجال الدائر حول الظروف الفلسطينية والعربية الراهنة. وبعدما ختم مسيرته القصصية والشعرية في العام 1999 شعر بأنه كتب كل ما يريد أن يكتب، فانتقل إلى موقع الشاهد ولكن غير الصامت. وتستحق تدويناته الفيسبوكية إلى جمعها في كتاب حقاً، فهي تحمل الكثير من سماته الأدبية وسخريته ومعاناته
” اندبندنت”