كورونا لتهكير الذاكرة ؛؛؛- د. عصمت حوسو – الأردن
العالم الآن – فيروس الطاعون المستجدّ سيء الذكر المعروف بالكورونا يهاجم الرئتين في جسم الإنسان وهنا مكمن خطورته، وكنا نتمنّى لو أنّ هذا الفيروس سواء قد طوّر نفسه لوحده في الطبيعة أو حتى لو أنه تطوّر على أيدي بشرية في مطابخ السياسة العالمية، المهم أننا نتمنّى نوع جديد منه يهاجم (الذاكرة العربية) ويهكّرها؛ حتى تتمكّن من نسيان ما مرّ عليها من مآسي وأحداث موجعة قبل الكورونا، بحيث تبدأ ذاكرة العربي الذي كان ميتًا سريريًا بالانتعاش بأملٍ جديد وبوعيٍ جديد..
عندما يمرّ الإنسان بظروف صعبة على مستوى فردي أو بظروف قاهرة على مستوى الشعوب، تظهر لديهم حالة نفسية تسمّى (عودة المكبوت)، وتظهر عندما يطفح الكيل بهم نتيجة ظروف قاسية متتالية، أو نتيجة لتعرضهم لحدث صادم فجّر لديهم ما لم يكونوا يتوقعوه، حيث لا شيء يضيع من الذاكرة.
وعلى الرغم أنّ الأحداث الساخنة التي تعاقبت على الأمّة العربية كثيرة، إلاّ أنّ هذه الجائحة الصحية العالمية كانت الأقسى من حيث الخطورة، ولكنها في ذات الوقت أعطتنا أمل بمستقبل جديد مختلف لهذه الأمّة، التي كانت على وشك الاندثار معنويًا وتاريخيًا وجغرافيًا. وهذه من “إيجابيات” الكورونا التي فرضت على الجميع إعادة (التموضع) مرة أخرى على خريطة العالم، ولكن بشكل مختلف جدًا عن العهد السابق الذي نسفه طاعون العصر الحديث..
إنّ (عودة المكبوت) حالة يخشاها الفرد المأزوم ويستغرب عمقها وأبعادها؛ فنجده فرحًا مرة وقلقًا حزينًا ساكنًا مرات، فتختلف ردّات فعله عليه نتيجة لحدث (مفصلي) في حياته الخاصة أو العامة، فيصبح (مفصله النفسي) ما قبل الحدث وما بعده، مما يفجّر لديه “قمقم” مختوم قد فَقٓدٓ السيطرة على استخدام الكفوف عليه، تلك التي جربها من قبل مرات كثيرة وتجاوبت معه، إلاّ أنه بعد هذا الحدث الأخير لم يعد يقبل بتلك الكفوف، وأصبح عصيًا على قبول ما كان يقبله سابقًا.
وهذه “الحالة الاضطرابية” التي تعاني منها اليوم شعوب العالم أجمع، لا الشعب العربي فحسب، قد قسمت الزمن لديهم إلى شقّين : قبل الكورونا وبعدها، زمن انتهى وزمن ابتدى، منذ هذا الحدث الكوروني المفصلي الأخير الذي حرّك طاقاته وفجّر مكبوتاته.
وبما أنّ الزمن متّصل لا ينقطع، واتجاهه واحد إلى الأمام فقط، ولا يمكن أن يقف ويعود إلى الوراء، كانت الأحداث المفصلية “السابقة” التي كنا نعلّق عليها الآمال الكثيرة تُصيبنا (بويلات) الحسرة والخذلان والتقاعس والشعور بالضعف والعجز والهزيمة، إلى أن أوصلتنا إلى مرحلة (اللاّفعل) فوصلنا إلى الحدّ الذي تمنّينا فيه العودة للماضي مهما صعُب، وأصابتنا حمّى (النستالجيا) التي تتغنّى في الماضي لغياب الحاضر المشرق وتوشّحه في السواد آنذاك.
ولكن بعد أن أصابتنا حمّى الكورونا فجّرت آمالنا نحو غدٍ أفضل، وأعادت الثقة للذات العربية، وما كان يرضاه الشعوب سابقًا لا يمكن أن يرضاه الآن، لذلك كانت أمنيتنا (تهكير الذاكرة) حتى نستطيع البناء من الآن، ونتمكّن من بناء وعيٍ جديد لا علاقة له بالوعي الزائف الذي اعتشنا عليه لعقود طويلة كانت (حبلى) بضعف الهمم، وحان الآن موعد الولادة لمشروع جديد يخرج سليمًا من رحم المعاناة محليًا وعربيًا على حدٍ سواء..
وهذا ما حدث تمامًا معنا كلّنا على مستوى وطني حاليًا بالحدث المفصلي الصحّي الكوروني الذي قلب العالم رأسًا على عقب، ونتمنّى أن تكون الفرصة الجديدة لإنعاش “العقل الجمعي العربي” بحلّة جديدة مأخوذة بعين الاعتبار من قبل الجميع، قيادة وشعب وحكومة.
أما على المستوى الشخصي فدون أدنى شكّ أثّرت علينا الكورونا على جميع الصعد، ولكننا جميعًا لدينا ذلك الحدث المفصلي البارز الذي قسم حياة كل منا بما قبله وما بعده، راجعوا ذاكرتكم وحدّدوا معالم أحداثكم المفصلية النفسية، لأخذ الدروس والعبر حتى لا يُعيد التاريخ نفسه وتندموا..
إعادة (التموضع) استراتيجيًا وسياسيًا بات ضرورة وطنية “وجودية” ملحّة، ذلك هو الطريق الوحيد للتخلص من “معسكر الشرّ ” داخليًا وخارجيًا، غير ذلك هو حتمًا (انتحار وجودي)، كما أنّ تحقيق “التمازج” ما بين العالم الواقعي والافتراضي يخلق (فانتازيا) فريدة قد تحمل في طواياها الملهاة والمأساة في آنٍ واحد، فاستغلّوا الفرصة التاريخية المفصلية يا أولي الأمر وأصحاب القرار، ولا تُضيعوها كما ضاعت الأوطان وفرص كثيرة سابقًا..
هكّروا ذاكرتنا السابقة المثقلة بالخذلان، بصنائعكم الفخمة لما فعلتوه مع الكورونا، ونرجوكم الاستمرار على ذات النهج، وأعينونا على إحياء الأمل من جديد وبناء وعيٍ جديد في ذاكرة مُتخمة في التفاؤل،، وحتى ذلك الحين سيبقى لنا من هذا الحديث قصص أخرى وبقية…دمتم….
دة.عصمت حوسو