أمّة إقرأ لا تقرأ ؛؛؛ د.عصمت حوسو – الأردن
العالم الان – في جيل الأربعين سنة الماضية وربما إلى الآن، أصبح التعاطي مع الكتاب اهتمامًا نادرًا وشحيحًا، ويعتبر ذلك من (الظواهر) شبه الثابتة للأسف الشديد.
ومن أسباب ذلك يعود إلى طغيان “المدخلات التكنولوجية” الجديدة والكثيرة في آنٍ واحد، تلك التي جعلت من القراءة والمطالعة أقلّ إغراءً؛ لأنّ المتعة المتدرّجة والفائدة الاستراتيجية طويلة المدى التي تُعتبر ميّزات نفسية ومعرفية، والتي منحت (المطالعة) والقراءة شرعيّة الاستمرار، لم تَعُد كافية إطلاقًا للصمود كأحد الطرق لقتل ملل الوقت وملئه في الوقت نفسه، بالمقارنة مع متعة تطبيقات “التواصل الاجتماعي” ووسائله المسليّة جدًا، وإن كان معظمها تافهًا.
وربما يعود ذلك أيضًا إلى قدرتها السريعة لقتل وقت الفراغ مقابل شحّ وسائل أخرى أكثر فائدة، ونضيف إلى ذلك أيضًا تسهيلها -أيّ وسائل التواصل- لإمكانية الكسب المالي السريع في عصر (الشورت كاتس)، وعدم الرغبة وغياب الصبر للحصول على الشهرة والمنصب والغنى بشكل تراكمي كما كان سابقًا في عهد السلف، كيف لا وفيديو قصير على تلك التطبيقات يشحذ العديد من اللايكات والإعجابات والمشاركات لآلاف المتابعين، مما يمنح صاحبه فرصة كبيرة للحصول على مالٍ وفير دون أدنى جهد أو تعب باستثناء سخافة المحتوى المطروح الذي يمنح (الشهرة السريعة) لمهوسي تلك الشهرة السريعة التافهة على حساب المضمون، الأمر الذي يؤثّر سلبًا على ما يملأ عقول الجيل الحالي وقلوبهم من حشو معلومات سطحية فارغة، وفي حالات كثيرة تكون مغلوطة..
وبالرغم من ذلك، ما زال هناك كتبًا رائجة، وربما هي الأكثر ترشيحًا للمنافخة عن أهميّة الكتب القيّمة وجاذبيتها، وهذا الإقبال العالمي لا فقط العربي على التعاطي مع مثل تلك النوعية من الكتب التي تعطي نصائح وإرشادات للكسب السريع، والشفاء من الأمراض النفسية والعضوية سريعًا، وسُبُل السعادة السريعة، وغير ذلك الكثير، لم يأتِ من فراغ.
ونعزو السبب في ذلك ببساطة شديدة إلى أنّ مثل هذا النوع من الكتب -الأكثر مبيعًا- ظهرت لتحاكي عطشًا إنسانيًا لمعرفة كُنه الوجود وماهيّته، وللحصول على إجابات سريعة عن تساؤلات تعجّ في دواخلنا عن بديهيّات فطرية، لذلك أصبح ذلك الكمّ الغزير والوفير من الكتب وكأنها أحاجي وألغاز؛ لأنّ العالم بأسره بات متوقّفًا بكليّته عن “التأمّل” والاعتماد على المنطق البسيط، فغاص في تفاصيل “ميكروسكوبيّة” وتشريحيّة شوّهت معها النظرة الهولية والشاملة للإنسان والحياة بكل مناحيها، ناهيك أيضًا عن الوضع العربي المزري في مجال البحث والدراسات ..
ومثل تلك الكتب الوفيرة حاليًا لم تأتِ بجديد، اللّهمّ أنها جدّدت فقط معنى (الحلم) واحترام المشاعر الدافعة في النفس الإنسانية، كما أنها سهّلت بدورها من التعامل مع غموض الوجود وفراغه، وخطورة الحريّة، ورُعب الموت، التي قدّمتها أغلب تلك الكتب الأكثر رواجًا بأفكار وصِيغ بسيطة غير معقّدة ومنطقية في الوقت ذاته، وهي بذلك قد خفّفت من ضنك التساؤل وأزمته المُطبقة على الأنفاس لا على العقول فقط..
فلا غروَ إذًا أنّ مبيعات تلك الكتب اليوم قد تجاوزت حدّ المعقول مقارنةً بالكتب القيّمة التي تُثري المخزون المعرفي للإنسان، وتحثّ دماغه على التفكير والربط والتحليل ثمّ التفسير، وهذا لا يعني بالطبع التقليل من قيمة بعض تلك الكتب وأهميّتها، فعلى أقلّ تقدير قد تعطينا بارقة من الأمل ولو كانت بسيطة على توجّه البعض نحو القراءة، لعلّ وعسى ينمّي ذلك لديهم حسّ التمييز بين السمين والغثً من الكتب والكتّاب..
كثيرٌ منّا قد يفكّر على طريقة أولئك الكتّاب أصحاب الكتب سريعة الانتشار، إلاّ أنّ الفرق يكمن في القدرة على الصياغة الاحترافية للمخرجات، فقمّة النضج المعرفي هي تلك التي تُنتج العمليات العقلية المعقّدة منها نتائجًا واستنتاجات بسيطة تُطرب القارىء، وتُشجيه، وتجذبه نحو القراءة أكثر وأكثر..
وما يحدو للأمل في أغلبية هذه الكتب أنها بدأت تُقنع الكثير من الجيل الحالي بأهمية القراءة وقيمة الكلمات المطبوعة بين كفتيّ الكتاب، في ظلّ هذا الكمّ الكبير من المتع الخطيرة التي تحيط بنا من كلّ حدب وصوب..
وأخيرًا نقول أنّ أحد أهم الغايات السامية حاليًا أمام المثقفين والكتّاب أن يعود مبدأ (خير جليس في الزمان كتابُ) حاضرًا ومتجذّرًا جدًا وجدًا..
فيا أمّة إقرأ التي أغلبها لا يقرأ عودوا للقراءة فهي ذخيرتكم الوحيدة اليوم لإنتاج الفكر ومحاربة الفكر المشوّه بالفكر، لا بإطالة اللسان، ولا بالاعتراض والتنديد، وابعدوا كلّ البُعد عن ثقافة الولولة والندب؛ لأنها لن تخرج عن إطار الاسترسال في وصف المشاكل فقط وتركها تتفاقم دون حلول..
حديثنا دومًا له بقية… دمتم….
دة.عصمت حوسو