في بيتكم مراهق/ة ؛؛؛ د.عصمت حوسو – الأردن
العالم الان – في السابق البعيد جدًا، كانت نسبة كبيرة من المراهقين/ات يتجاوزون “مرحلة المراهقة” بسلام وهدوء، وكانت النسبة الأقلّ حينها ممّن احتاجوا إلى رعاية خاصة، واهتمامًا (واعيًا) من قبل الأهل أوصلهم إلى مرحلة الشباب بثقة وببصيرة واضحة ومستقرّة نحو المستقبل وخفاياه، على الرغم أنّ الإمكانية والأدوات الصحيحة لم تكن متوفرة لدى كلّ الأهل للتعامل مع أولادهم وبناتهم المراهقين/ات بوعي تامّ، وإنما كانت تسير على التساهيل..
ولكنّ اليوم أصبحت التربية بشكل عام، وفي مرحلة المراهقة على وجه الخصوص بمثابة الجهاد؛ لأنّ الزمن تغيّر وأدوات العصر ولغته تطوّرت، وهناك مدخلات كثيرة أزاحت وسائل أخرى في التربية وربما حلّت محلّها أيضًا، وأضف إلى ذلك تقلّص دور الأسرة في التربية أمام طغيان مؤسسات أخرى أقلّ ما يمكن وصفها بالخطرة..
وعليه، فإنّ الأهل الذين لا يتسلّحون بأدوات ولغة عصرية للتعامل مع المراهقين/ات في بيتهم، سيفشلون في تمكين أبنائهم وبناتهم لمواجهة تحدّيات الحياة، والأخطر من ذلك، سيصبح هؤلاء اليافعين مادة خصبة للاستغلال على كافّة الصُعُد، وسيصابون باضطرابات نفسية ومشاكل اجتماعية، ونقول هذا من واقع مرير نشهده اليوم؛ لأنّ نسبة مراجعينا من هذه الفئة العمرية هي الأعلى حاليًا، حيث يعانون من مشاكل نفسية وأسرية وعلائقية تعيقهم من الخروج من هذه المرحلة بسلام وبأقلّ أضرار ممكنة، وأسباب ذلك كثيرة لا يسعنا تغطيتها جميعًا في هذا المقال..
وإن كانت مرحلة المراهقة سابقًا لا تُعتبر (مرضًا)، لستُ أجزم بل اعتقد أنها الآن أمست بحاجة إلى اعتبارها بمثابة المرحلة المرضية التي تحتاج إلى مستوى عالٍ من “الوعي” من قبل الأهل، وكافة القائمين على مؤسسات التربية، للتعامل الصحّي مع هذه الفئة العمرية، ولتمكينهم للخروج منها بسكينة وجاهزية عالية أمام تحديات الواقع الحالي بكلّ ما فيه، ولتجاوز هذه الحقبة بنجاح وبأقل الخسائر..
المراهقة مرحلة عمرية من الطبيعي أن يمرّ بها كل إنسان، ويُخطىء كثيرٌ من الأهل عندما يخاطبون أولادهم وبناتهم بصيغة تحمل السخرية والامتعاض أو الشتائم لكونهم مراهقين/ات، وبدلاً من ذلك فإنّ أهم معنى يجب أن يترسّخ في عقولهم هو الفخر والاعتزاز والاحترام لأنهم في مرحلة المراهقة، وذلك فقط ما سيجعلهم ينظرون إلى أجسامهم والتغيرات التي تطرأ عليها ولذواتهم بشكل طبيعي، ويتقبلونها بشكل إيجابي، وذلك فقط أيضًا ما سيرفع من ثقتهم بأنفسهم ويعزّز قبولهم لما أصبحوا عليه..
المراهقة تضع الفتى والفتاة في مرحلة انتقالية ما بين الطفولة والشباب؛ لأنها تحمل الكثير من المتغيرات الجسمية والعقلية، لذلك تُدخل المراهق/ة في حالة من الغموض والإرباك، وتأتي استجابته (الوجدانية) عليها كموجات من الغضب والحزن والعزلة، والمطلوب من الأهل في هذه المرحلة التسهيل على أولادهم وبناتهم حالة التعبير الوجداني، وتركهم يفرّغون ما في خوالج أنفسهم لغويًا وبأريحية، ومن الضروري جدًا إيجاد قنوات اتصال مفتوحة معهم دون إشعارهم بالرعب من ردّات الفعل غير المأمونة.
وهذه الطريقة لا تنقذ المراهقين/ات خلال هذه المرحلة فحسب، وإنما تُسعفهم مدى الحياة؛ لأنّ ترسيخ هذه القدرة في التعبير العاطفي عن المشاعر منذ الصغر تساعدهم كثيرًا في تجاوز التعبيرات غير السليمة عن المزاج لاحقًا، وتستبدلها بأخرى سليمة وصحّية، وهذا ما ينقذهم أيضًا من توقّف (النضج العاطفي) عند هذه المرحلة وعدم تطوره، والأخير بدوره هو ما يصنع لهم مشاكل التواصل مع الآخرين فيما بعد، وبالذات مع الجنس الآخر، وحتى في مؤسّسة الزواج كذلك..
تتمحور عقول المراهقين/ات في هذه المرحلة حول اكتشاف أنفسهم، ومحاولة إعطاء تعريف لذواتهم من خلال العديد من التساؤلات التي تجول في عقولهم حول هويتهم، ورغبتهم بالاستقلالية، وعلاقتهم مع الجنس الآخر، وتعتبر الإجابة على هذه التساؤلات بمعلومات تتناسب مع (قدرتهم الاستيعابية) عاملاً مهمًّا في استقرار المراهق/ة نفسيًا واجتماعيًا، وإن كان من الأفضل للمراهق/ة اكتشاف الإجابات لوحدهم.
ولكن قد تتعرض أدمغتهم إلى مجموعة من “الاهتزازات المعرفية” وحالة من (التنافر المعرفي) كذلك يترتّب على الأهل حينها مساعدتهم، ويحتاج هذا الوضع تدخلهم، ولكن دون إقحام السلطة والرغبة في السيطرة، وإنما بطريقة تتناغم مع ما يناسب المراهق/ة لا الأهل، ولمن يسأل هنا ما هي الطريقة الأفضل نجيب بأنّ الفروق الفردية والبيئية تجعل من وجود قاعدة ثابتة للسلوك الإنساني بمثابة الأحجية ولا يمكن أن تكون قابلة للتعميم..
ويرافق المراهق/ة الرغبة الملحّة للاستقلالية والتي يحاول أن يمتحنها مع العالم، فتراوده أسئلة عن مدى قدرته على ممارسة قراراته وحياته لوحده، وإن كان بإمكانه أن يكوّن علاقات اجتماعية خاصة به وحده، وهل لديه أدواته الخاصة للتكيّف مع محيطه ومع الحياة بأكملها.
وفي خضمّ هذه الأفكار والتساؤلات التي تشوّشه، يقع على الأهل عبء إعطائه هامش من (الاستقلالية) والاحترام لرأيه، ومناقشته بمنطق فيما يتعلّق بقوانين العائلة ومطالبه إن تضاربت معها، وغمره بالحبّ وتقبّله كما هو، وتقبّل مطالبه إن كانت مشروعة، وإعطائه مساحة للتعلّم من الحياة لوحده، فإن لم يتألّم لن يتعلّم، وما على الأهل هنا سوى الإشراف عليه وحمايته عن بُعد دون خنق، فأن يجرّب بمعرفتهم أخفّ ضررًا عليه وعليهم من أن يفعل الشيء ذاته من وراء ظهورهم، الأمر الذي يضطرّه إلى علاج الغلط بغلط أكبر منه خوفًا من ردّة فعلهم، كما يضطرّه إلى اللجوء لأصدقاء السوء لاحتوائه عندما يخفق الأهل في فعل ذلك..
إعطاء المراهق/ة هامش من الاستقلالية ومساحة خاصة له، يقابلها أن يقايض الأسرة بتحمّله بعض المسؤوليات التي تجعل منه عضوًا فاعلاً في الأسرة، وقادرًا على الإنتاج من خلال مقاسمتهم أعباء الحياة حسب قدراته وإمكاناته ودون أن يشعر بالعبء الثقيل..
وفيما يتعلق باختلاف ثقافة الجيل الحالي من حيث اللّباس ونوع الموسيقى المفضّلة والاهتمامات والهوايات وحتى تسريحة الشعر، على الأهل احترام اختياراتهم واختلافهم في الوقت نفسه، ومن الحكمة كذلك تقبّلها طالما لا تتعارض مع المعايير الأخلاقية، وعلى الأهل أيضًا “توفير” تدخلاّتهم اللاّمتناهية بالمراهق/ة لأمور أكثر أهمية حين يقترفها أبناءهم وبناتهم المراهقين، خاصة عندما تتناقض سلوكاتهم مع الأصول الثقافية والاجتماعية التي تحرص عليها الأسرة كما يحرص عليها المجتمع..
أمّا الموضوع الأهم والذي يعتبر “تابوه” في تربية المراهق/ة فهو العلاقة مع الجنس الآخر، حيث تتذبذب الهرمونات للمراهق/ة في هذا العمر، وتبدأ مرحلة اكتشاف الهويات جميعها، ومن ضمنها الهوية الجنسية والهوية الجندرية، ومكمن الخطورة في هذه المرحلة هو عدم متابعة الأهل لسير تطور هوية المراهق/ة، خصوصًا أمام طوفان سهولة الحصول على المعلومة بكبسة زر واحدة، والمطلوب من الأهل في هذا الجانب النمائي، عدم استنكار وجود المشاعر لدى أبنائهم وبناتهم؛ لأنّ العواطف مزروعة في الوجدان وهي أصيلة وإنسانية في الوقت ذاته.
ولكن يجب تعليم المراهق/ة أنّ من حقهم في هذه المرحلة الشعور، وليس من حقهم تحويله إلى علاقة حبّ والتزام، لا لشيء أكثر من الخوف عليهم من (الأذى النفسي) الذي يتركه هذا النوع من العلاقات في عمر مبكّر، قد تؤثّر على جميع علاقاتهم فيما بعد وتقودها نحو الفشل، وقد تكون السبب كذلك في الإخفاق حتى في العلاقة الزوجية.
وعلى الأهل هنا تقبّل حاجة استشعار الاهتمام والانجذاب لدى المراهق/ة نحو الجنس الآخر، ومن الضروري توضيحها بجلاء وتفسير وجودها بأنه لا يعني جدّيتها، وتعليمهم أنّ حالة الانجذاب والعواطف الطارئة والمؤقتة تختلف تمامًا عن حالة الحبّ، والأخير أهم أركانه العمر المناسب في الوقت المناسب مع الشخص المناسب..
ومن غير المُتاح الوصول إلى هذه المرحلة من التفاهم بين المراهق/ة والأهل وبناء الثقة معهم إن لم تكن قنوات الاتصال والتواصل معهم مفتوحة على مصراعيها؛ لأنّ البديل الخطير هو لجوء المراهق/ة للبحث عن حلول وإجابات لدى أقرانهم من الفئة العمرية ذاتها، أولئك الذين يفتقدون من الوعي والخبرة الكافية لنصحهم وإرشادهم، وهم في الوقت ذاته يعانون شكواهم نفسها، وفي أسوأ الأحوال قد يقع المراهق/ة فريسة سهلة للغاية أمام بعض الأجندات التخريبية للمجتمع وهويته الأصيلة لصالح الهجينة..
الحديث عن هذا الموضوع على وجه الخصوص، وفي هذه الزمن تحديدًا يطول ويطول، لذلك سيبقى قلمنا نابضًا بما فيه صالحًا لإنقاذ الجيل الحالي نفسيًا واجتماعيًا، وتحضيره لغموض المرحلة وتحديات المستقبل وفرصه…وسيكون لحديثنا حوار آخر وبقية….دمتم…..
دة.عصمت حوسو