رائحة الموت في كل بيت ؛؛؛د.عصمت حوسو … الأردن

0 198

 

العالم الان – نعيش اليوم في زمنٍ مُثقل بالهموم، ومُتخم بالوباء، ومُعطّر برائحة الموت، ومُلوّن بحسرة الحداد، ومُصاب بحرارة الفقد، إلى الحدّ الذي فاق قدرتنا على تحمّل ما نواجهه من وجع الضغوطات الحالية وغفلة المفاجآت كل يوم..

ويكاد لا يخلو بيت في هذا الوطن لم يطرق بابه الموت، ولا ذاق وجع الفقد، وعلى الرغم أنّ حتمية الموت هي الحقيقة الوحيدة الأزلية الثابتة والمؤكدة في هذه الحياة البائسة إلاّ أنّ لا أحدًا يُنكر ما يسبّبه لنا من قهر يطول علاجه، لا سيّما أنه حق على الجميع..

الحسرة الناجمة عن الفقد وفي الموت على وجه الخصوص طعمها مرّ جدًا للفاقد، وقد يأتي الفقد على أشكال كثيرة، كانتهاء علاقة على سبيل المثال سواء علاقة حبّ أو خطبة أو زواج، وفقدان وظيفة أو مكانة اجتماعية، أو فقدان وطن، وفي كل الأحوال الفقدان وأنواعه المختلفة موجع جدًا، ومرحلة الشفاء والتعافي منه يحتاج وقتًا قد يطول أو يقصر بناءً على عدّة عوامل لعلّ أهمها تعتمد على شدّة التعلّق بالشيء المفقود وكثرة القرب من الفقيد، ومرونة الفاقد.
وبما أنّ جميع أشكال الفقد مُرّة إلاّ أنّ الموت أشدّها مرارة لأنه يقطع الاتصال بالمفقود مرة واحدة وللأبد ولا يمكن تعويضه، أمّا حرارة الفقد التي تصل ذروتها وقد لا تنطفىء بسهولة تكون في حالات الموت فجأة بدون مقدمات أو حتى كلمة وداع..

وحتى نخرج من إطار توصيف الوجع، فلا نملك سوى أن نشرح للفاقدين ومن حولهم المراحل الحتمية التي سيمرّون بها، لعلها تساعدهم في الخروج منها بسرعة وبأقلّ خسائر ممكنة، وتلك المراحل النفسية الخمسة تختلف من شخص لآخر، وقد يتداخل ترتيبها وتختلط المراحل ببعضها أو واحدة تسبق الأخرى، وهذا شيء عادي، المهم هنا الوعي بالمراحل جميعها لتحديد مدى خروج أيّ منها عن الوضع المقبول، وكذلك لتحديد درجة الخطورة والوقت المناسب لطلب المساعدة من المختصين، خاصّة وأنّ الفقد وما يصاحبه من اضطرابات فكرية ونفسية وسلوكية أمسى مرض العصر في زمن الكورونا..

أول مرحلة يمرّ بها الشخص الفاقد هي مرحلة (الإنكار والعزلة)، وهي ردّة الفعل الأولى بأن يُنكر الشخص حقيقة الكلمات التي أتت لمسامعه من أخبار صادمة، وتعتبر درع الامتصاص الأول للسيطرة على الأزمة. وبعد ذلك تلحّ عليه الرغبة في العزلة والوحدة لاستيعاب وقع الفكرة واسترجاع الذكريات، وتتملّكه أيضًا مشاعر الخوف من القادم، فيحتاج الشخص الفاقد إلى قدر وفير من السكينة ليلملم نفسه ومناعته لمقاومة الوحدة وتحمّل عقابيل الحياة القادمة ومسؤولياتها..

إنّ رفض الاعتراف بالموت في المرحلة الأولى تعتبر حالة غير واعية ولكنها مؤقتة، ومن الطبيعي جدًا إن استمرت ساعات أو قليل من الأيام وقد تطول أكثر أحيانًا لدرجة قد تصل حدّ المرض، وهنا تظهر أهمية التدخل الاحترافي ( الطبي، والنفسي، والاجتماعي) .

ثاني مرحلة يمرّ بها الفاقد هي مرحلة (الغضب)، فما أن يخلع الشخص قناع الإنكار عن الأبصار حتى يستشعر الشخص ألم الخبر، ويعبّر الشخص الفاقد عن الألم النفسي الشديد الذي يعتريه بطريقة تحفظ ماء وجهه وبتعبير ذي قوة ألا وهو ( الغضب).
وغالبًا ما يتمّ توجيه تلك الشحنة باللّوم على أيّ أحد ذي علاقة، سواء نحو الأهل والمحبّين أو الأصدقاء وربما نحو الطبيب أو نحو المستشفى، وفي بعض الحالات نحو المسؤولين في ظل جائحة كورونا التي استنزفت الجميع حتى خارت قواهم، والصفّ الأول من الجيش الأبيض نال حصة الأسد من الخسائر الفادحة التي وصلت حدّ فقدان عدد كبير منهم بسبب تعاملهم المباشر مع المصابين.
وبالمنطق النفسي والأخلاقي إن حصل أيّ من تلك السلوكات السلبية “الغاضبة” في هذه المرحلة بالذات يجب تحمّلها وتبريرها؛ لأنّ الضريبة الاعتيادية على الأحباب والأقارب والأصدقاء وأحيانًا الأطباء والآن المسؤولين أن يتلّقون عن طيب خاطر بعض النيران الصديقة من أهل الفقيد..

وثالث مرحلة يمرّ بها الفاقد هي مرحلة (المساومة)، والتي نسميها هنا بِ”مرحلة اللوّات من لو”، ففي هذه المرحلة تتملّك الفاقد أفكار اللاّنجاة من الحقيقة المرّة، وغياب مصادر المساعدة الحاسمة من ذلك الوضع الذي يرى أنّ جدّه جدّ وهزله جدّ أيضًا، فلا مفرّ مما حصل، وهنا يحاول الفاقد أن يقبض على حبال السيطرة بآلية المساومة و هنا تبدأ لغة (لو)، لو انتبهت إنه كان تعبان، ولو يرجع حتى اقضي معه وقت أطول، ولو ما زعلته، ولو ما تخانقنا، وسلسلة اللوّات تطول وتطول، فهي لائحة لامتناهية ولا تجدي نفعًا ولا تعيد الفقيد سوى أنها تشحن حرارة الفقد أكثر فأكثر، ومن الطبيعي أن يمرّ الفاقد بها وعلينا تقبّلها وتقبّل كل ما يصدر عنه دون عتاب أو لوم أو “تنظير”، فذلك يؤخر شفائه وخروجه من تلك المراحل بسلام..

ورابع مرحلة يمرّ بها الفاقد تسمّى بِ(الطور الاكتئابي)، حيث يسود الحزن والندم والشعور بالذنب، ويتأزّم العقل إلى حدّ فقدان الصحة وغياب همّة الإنتاج وقدرة الرعاية للآخرين وتحديدًا أفراد العائلة.
وحال الفاقد في هذه المرحلة يعتبر تفاعل سلبي بين فكرة خسارة الحياة و خسارة نوعية الحياة ذاتها، و يتراوح الاكتئاب هنا بين اكتئاب واضح يرى ملامحه الناس وبين اكتئاب كامن خاص يموج عميقًا داخل نفس الفاقد و يعصفها ألمًا وحسرة..

أما خامس مرحلة وهي الأخيرة للفاقد، تسمى مرحلة (التقبّل أو القبول) للأمر الواقع، ويعتبر الوصول إلى هذه المرحلة هبة ثمينة جدًا، ولكن للأسف لا يصل إليها إلاّ من أنقذه عقله في تأقلمه السريع، ومن حباه الله بمصادر الدعم العائلي والاجتماعي والطبّي الفاعلة، ومرحلة القبول تتميز بالهدوء والعزلة النسبية، وبالرغم من غياب الفرح خلالها إلاّ أنّ هذه الحالة لا تعتبر اكتئابًا..

وحين يداهمك قاهر العباد وهادم الملذّات على من تحبّ، فإما أن يتركك وحيدًا في مرحلة الإنكار والغضب و يرديك مشلولاً، أو أن تمرّ بتلك المراحل الخمسة المذكورة أعلاه بزمن طبيعي لحين تقبّل الحياة الجديدة بمكان خالٍ ممن تحبّ فيها، فالقرار لك، وتذكّر جيدًا أنّ الوقت مع أزمات الحياة المتكررة وخاصة أزمة الفقد يصبح كالسيف إن لم تقطعه قطعك..

إنّ معرفة هذه الأطوار الخمسة و تدرّجها من قبل الأهل والمحيط وعدم وصمها بالمرضية متطلّب رئيس لتجاوز هذه الموجات الوجدانية العاصفة، وصولاً لفكرة تقبّل موت أو مرض أو فقد الغوالي كحقيقة واقعة، وبالتالي قبول المساعدة الطبية إن تأزّم الأمر وبأسرع وقت، (وأسرع) هذه تفرق كثيرًا مع مرونة الشخص ودعم المحيط المذهل ومروره بجميع المراحل بهدوء، حيث يتذبذب سلوك الفاقد في الحداد ما بين مرحلة الإنكار ومرحلة التقبّل وقد تصل أحيانًا بتمنّي الموت وفقدان الرغبة بالحياة، ويوشك أن يجعل من حالة (إنكار) الفقد أو الانفصال أو الموت قابلة للاندحار على مذبح العلم لا الشعوذة والخرافة..

وأخيرًا نقول أنّ حالة النحيب والنشيج التي نحياها اليوم تحاكي هول الهزيمة وخذلان الروح، فقد اعتدنا على استباحة الأوطان، وعلى فقدان الأحبّة، كيف لا ونحن مجبولون على تقبّل الموت وما يرافقه من حسرة الحداد والفقد، ويبدو أنّ هذا الشعور سيرافقنا للأبد، فالحسرة هنا لا تقتصر على الفقد، بل إنها الحسرة على اغتيال كرامة الإنسان قبل الأوطان..

نتمنّى أن تصل هذه المقال لكل فاقد، كما نتمنّى أن تساعده على تخطّي الألم والمرور بالمراحل الخمسة كافة بخسائر أقلّ، فخسارة الفقدان وحدها تكفي، ولا داعٍ لخسائر اكثر..

حتمًا ودومًا سيكون لنا من هذا الحديث بقية…دمتم….
دة.عصمت حوسو

رابط مختصر:
مقالات ذات الصلة

اترك رد