كيّ الوعي الصهيوني ؛؛؛د.عصمت حوسو – الأردن
العالم الان – وإن كان مفهوم (كيّ الوعي) مستخدمًا على مدار عقود سبعة ونيف لوصف الوعي “المزيّف” والمشوّه الذي حاول الصهاينة مع أعوانهم من الصهاينة العرب زرعه في الدماغ العربي بشكل عام وفي دماغ الفلسطينيين بشكل خاص عن حقيقة لا تقوم سوى على “الوهم”، بأنّ الكيان المزروع بيننا لا يُقهر، ولا يُهزم، وأنه مُدجّج بأحدث الأسلحة، لتبرير العجز العربي والتقاعس عن مواجهته وإزالته قد نجحت في العقود السابقة، إلاّ أنّ المعادلة الآن قد انقلبت، حيث أثبتت (المقاومة الفلسطينية) الباسلة بالنصر الذي حققته على أرض الواقع في الحرب الأخيرة على فلسطين بأنّ كيّ الوعي الآن قد استوطن في عقول الصهاينة بدلاً من العرب، تمامًا كما استوطن مواطنيهم المجلوبين من كل حدب وصوب في الكرة الأرضية على أرض العرب المباركة (فلسطين) والمستمدة لقداستها من القدس الشريف، وأثبتت المقاومة أيضًا أنها بنصرها قد “كوت” الوعي الصهيوني بأنه لا يمكن هزيمتها أو التخلص منها، وأنّ أسلحتهم المتطورة لم تحمهم من الرعب الذي أصابهم من صوت صواريخ المقاومة، كما لم تفدهم مفاوضات السلام كذلك، مهما ضحك بها رؤساء حكوماتهم على لحى العرب، حيث تبيّن أنها لم ولن تجدي نفعًا، فوصل الصهاينة لحالة من الذعر بأن بدأوا يفكرون بالهجرة، ومغادرة أرض فلسطين التي لم تعترف لهم يومًا ولا ترابها ولا شعبها بأنها أرض الميعاد كما يدّعون، وستلفظهم مِن عليها بثورة كما يثور البركان ويقضي على سكان أرضه بنيرانٍ قاتلة..
وانطلاقًا من تعريف مفهوم (كيّ الوعي) بأنه عملية غسل دماغ تختلف طريقتها باختلاف الحقبة الزمنية، ومن خلالها تتغيّر أفكار الإنسان ومعتقداته وتوجهاته باتجاه من يقوم بشنّ هذا الكيّ على ذاك العقل، وبذلك تتشكل لديه قناعات جديدة منحرفة تمامًا عن الفكرة الصحيحة أو الهدف الأسمى، وهذا يجعله يفكر كثيرًا قبل قبول التغيير أو الجرأة في الإقبال عليه، فتسكنه حالة العجز وتهرب منه الإرادة، الأمر الذي يجعله يشعر بالضعف أمام قوّة الطرف الآخر الذي يقوم بكيّ وعيه، وانطلاقًا من القاعدة السلوكية بأنّ (السلوك مُعدٍ) تتفشّى روح الإحباط ثم الوصول لقناعة راسخة بأنّ الطرف المقابل هو الأقوى، وأنه لا يُقهر ولا يُهزم وغير قابل للتراجع، فإنّ هذا التعريف قد نجح سابقًا فعلاً في العقل العربي باستثناء عقل المقاومة بالطبع، وها هي قد نجحت اليوم بأن تجعلنا نراه معكوسًا في وعي الكيان الصهيوني والصهاينة العرب ولله الحمد..
وقد بدا لنا جميعًا اليوم وبجلاء صارخ بأننا كنا نعيش في مرحلة عريّ العقل العربي وفراغه، فلم يعُد مقبولاً التمسّك بشعار الوعي وهو الحاضر الغائب؛ لأنّ الوعي الحقيقي ببساطة قد تمّ تزييفه واستبداله بوعيٍ مشوّه يتّشح بالسواد إلى الحدّ الذي تمّ كيّه بامتياز، والمحاولات الفردية لمجابهة هذا الوضع المزري لا تقوى أمام حالة تغييب (الوعي الجمعي) الذي يشارك به – بقصد أو دون قصد لا فرق- كل المؤتمنون على الذاكرة الوطنية ونبض أوجاعها وضمان عبورها للأجيال والمرافىء..
وقد استمرت ممارسة تكتيك كيّ الوعي من قبل قوى الظلام لإقناع الشعوب بوضعهم القائم وتجميله لهم، من خلال إيقاعهم تحت أسوأ الظروف مما كانوا عليه حتى يعتبروا الواقع السابق وإن كان غير مرضيًا لهم بأنه أفضل من واقعهم الحالي، وهذا يقودهم إلى الدفاع باستماتة للحفاظ على واقعهم، على سوآته، لأنه أفضل بوعيهم المزيف من أيّ تغيير من الممكن أن يهزّ منظومة الأمن والأمان التي يتوّهمون بوجودها في واقعهم المأزوم، وربما هذا التكتيك ما زال ناجحًا مع بعض الشعوب العربية إلى الآن، إلاّ أنّ سوء الوضع العربي محليًا وإقليميًا قد رفع نسبة الوعي الحقيقي عند أغلب الشعوب، وبدأت أصواتها تعلو وتطالب بالتحرّر من خفافيش الظلام التي ذلّتها وحرمتها من خيرات أوطانها، مثلما يناضل الشعب الفلسطيني دون كلل أو ملل ولا حتى يأس للتحرّر من الاحتلال الصهيوني، أما النتيجة الأهم لنصر المقاومة بأنها فرضت وجودها وانتزعت الاعتراف بها عنوة عالميًا، فلا يحسب الصهاينة حسابًا لأي دولة أو شعب سوى للمقاومة الفلسطينية وشعب فلسطين، وهذا التحوّل في كيّ الوعي من العربي إلى الصهيوني يُعتبر انتصارًا عظيمًا لا يقلّ أهمية عن الانتصار العسكري على أرض الواقع..
ولا ننسى بالطبع ما ساهمت به الماكينة الإعلامية بكافة أدواتها وأذرعها بشكل كبير في كيّ الوعي، فلم تكتفِ بتغييبه وتزييفه فحسب، وإنما تعّدته بمراحل من خلال ترويج من يتصدرون المشهد السياسي العربي في ظلّ التغييب التامّ للمساءلة، ودون الخوض في عمق القضايا الجادّة التي تهمّ الشعوب، ولم يقف الأمر عند هذا الحدّ وإنما تلاه عملية (ممنهجة) للتجهيل التام، وذلك حتى يكتفي الرأي العام بمسائل سطحية، الأمر الذي يسهّل على مطبخ القرار السياسي وصنّاع الرأي تمرير ما يريدون دون مقاومة وبنجاح باهر، وهذا الوضع يفسّر مدى استخفافهم كل الوقت بشعوبهم، فلم يقدمون لهم إنجازات حقيقية ولا برنامجًا واضحًا ليخدمهم، وبذلك أمست أقصى مطالب الشعوب هي أبسطها كتعبيد الشوارع أو بناء مدرسة، وعدم المطالبة بأعلى من ذلك للأسف الشديد..
كيّ الوعي الذي مارسه وما زال يحاول ممارسته الكيان الصهيوني الحاقد الغاشم على العرب جميعًا بعد أن كان يُمارس على الفلسطينيين وحدهم ولم ينجح، لإجبارهم على الإقرار بعجزهم عن الانتصار على هذا الكيان أو احتمالية التخلّص منه، ولخلخلة ثقتهم بأسود المقاومة واعتبارها عمل لا يُجبر الكيان على تقديم تنازلات تحت ضغط إزعاجات المقاومة المستمرة له.
وهذا بدوره كان يهدف إلى تقديس قوّة الكيان وإرهابه وتفوقه العنصري والعسكري لتطويعهم وفق ما يريدون، ولكسر روحهم الوطنية بإفراط جنوني، ومن أجل صناعة الهزيمة الداخلية في العقول والنفوس العربية، وتغييب الصورة الأفضل للشعوب التي تريد إحلال التغيير، كل ذلك وأكثر بهدف إيصال الشعوب العربية إلى فقدان ثقتها بقدراتها وبقياداتها وبرموزها الأحياء منهم والأموات على حدّ سواء، وفقدان الثقة بالعرب والمسلمين وبالمستقبل وربما بالقدر نفسه..
ويعود الهدف من إفقاد الشعوب العربية الأمل بالمستقبل، لدفعهم للاستسلام والقبول بأيّ حلّ يتمّ طرحه مهما كان، فهذه هي حرب العقول لكسر الإرادة الوطنية الحرّة، وحاول الصهاينة وأذنابهم من العرب تحقيق هذه النتيجة المرغوبة ليس بالترسانة العسكرية فحسب بل بالحرب النفسية الشرسة، وقد مارستها وما زالت تمارسها بطرق وأدوات مختلفة ومنها كيّ الوعي..
وبحمد الله وفضله لم تنجح هذه الاستراتيجية مع الغالبية العظمى من شعب فلسطين الأبيّ، وإن نجحت تلك الآلية مع بعض الشعوب العربية، فبقي الوعي الجمعي للشعب الفلسطيني الرحم الحاضن الذي خرج منه مولود المقاومة واتّقدت من نار وطنيته ثورة المقاومة، كيف لا وهي الضمان الوحيد لاستمرار الهوية الوطنية العربية والحفاظ عليها بمأمن من التشويه والضياع في ظلّ هجمة التطبيع الشرسة مع الكيان المحتل..
أما اليوم فنقولها بعرضٍ وطولٍ وارتفاع بأنّ (الوعي العربي) مرهون بإرادة الشعوب وتضامنهم فقط، وتلك هي الطريقة الوحيدة التي تحول دون كيّه مرة أخرى، فإمّا أن تستمر عملية كيّ الوعي وتنجح بالجهل والتجهيل المستمر والاكتفاء بقشور الأمور والاستكانة للواقع بمرّه دون حلوه، وإمّا أن تثور الشعوب أمام جميع أدوات الكيّ وكسرها على محراب الحبّ والتضامن والوحدة العربية، واستبدال الكيّ بنشر الوعي الحقيقي وتعديله بما يخدم قضايا الشعوب قبل الأوطان بعيدًا عن ضجيج الوعي المزيّف، لعلّ ذلك يعيد للشعوب جوهر وجودها وكينونتها..
وأخيرًا لا آخرًا نؤكد على أنّ التصدّي لسياسة كيّ الوعي ومجابهته تكمن في رفع الوعي الفردي والجمعي، وذلك من خلال القراءة والانخراط بقضايا الشعوب جميعها لا القضايا الشخصية فقط، والاهتمام بدرجة كبيرة بمراجعة الذات لتعديل الفكر والسلوك باستمرار بما يسمح بتراكم الوعي، كما أنّ الالتصاق بنبض الشارع ومطالب الشعوب والانغماس بمعاناتها وأوجاعها وتطلعاتها يساهم في بناء الوعي ومنع كيّه، أما الأهم على الإطلاق هو عدم الانجرار وراء تحقيق مكاسب شخصية ومكاسب سريعة على حساب الأهداف الوطنية السامية، ومثل هذه الآليات وما على شاكلتها يمنح الشخوص والشعب بأكمله سهولة التفريق بين الفرص المتاحة التي يجب اقتناصها، وبين الفخاخ القاتلة التي يجب تجنّبها..
ولا نريد سوى وعيًا مرفوعًا وعلامة رفعه الفكرة، والفكرة فقط..
دائمًا وأبدًا سيكون لنا بكل ما يتعلق بالوعي والسلوك الإنساني حديث آخر وبقية…دمتم….
دة.عصمت حوسو