ملك الدهشة محمود درويش – بقلم صالح العجلوني
العالم الان – أبهرنا أدهشنا أضحكنا أبكانا، وجمع كل المتناقضات في آنٍ واحد، إنه ملك الدهشة بلا منازع؛ ذلك الساحر الفيلسوف الرائع، الذي حرك الدمع ورفع الضغط وسارع النبض، وتركنا بين قشعريرة جسدٍ أو ابتسامة طربٍ أو تصفيقٍ ملتهب.
إننا في حضرة الذكرى؛ ذكرى رحيل الساحر الماهر المجيد المجدد، مقاول الدهشة والتفرد في شعرنا العربي الحديث؛ ذلك المتمرد الذي لا يكترث بالسرعات المحددة على طرق الإبداع، ولا يقيم وزنًا للحمولة المقررة من الأفكار العابرة للأديان والجغرافيا والتاريخ، ولايهتم بالإشارات الحمر ولا بإلزامية اتجاهات السير؛ فيعبر بقصيدته كل تلك المحرمات والمحظورات والممنوعات؛ ليصنع حادث الدهشة الذي لا ينتج عنه إلا الجمال؛ فيفاجئنا ونحن بكامل يقظتنا ووعينا، وبكامل قوانا العقلية، ثم يسقينا فودكا الحروف ليبقي الخيال على الحياد، وذلك هو السحر الحلال.
غنى للمواسم والمراسم والفصول والحقول وكانت فلسطين أيقونته الجميلة وملهمته النبيلة؛ فحمل الهمّ ورسم بالكلمات طريق خروج العابرين من فلسطين، وأطلق على قلبه رصاصة التوقف عن الحب؛ عندما حالت بينه وبين ريتا بندقية…
أيها المحمود فينا: كم نحن بعدك دراويش،
من قال أنك تُنسى كأنك لم تكن؟ فوالله ما زادك الغياب إلا حضورًا، ولقد أصبحت قصائدك مناجاة العاشقين للغائبين وهدايا الباحثين عن وطنٍ وحبٍ وجمال؛ فأصوات الراحلين لا تغادر؛ بل تجوب المدى ويرجعها ردُّ الصدى…
وكم وقفتُ على باب الأبجدية حائرًا عاثرًا مترددًا، لا أعرف كيف أبدأ ولا أعرف كيف انتهي؛ فقرأت واستمعت وشاهدت؛ فطربت وثملت وتعجبت، وأيقنت أنني كمصور وقع في غابة مليئة بالجمال؛ فأينما التفت وقعت عيناي على عجيبةٍ أشد جمالًا من سابقتها، وكيفما أصخت السمع لصوت عذب سحرني صوت أعذب منه؛ فاحترت من أين يبدأ الجمال ومن أين ينتهي؟
وهذا هو حالي مع شاعرنا وساحرنا الكبير محمود درويش، الذي غنى للأرض والإنسان في كل مكان؛ فقد لاحق الطرائد مع الهنود الحمر وحاول عقد صفقة مع السيد الأبيض من بنودها؛ أن خذ ما تريد من الليل واترك لنا نجمتين لندفن أمواتنا في الفلك، وقد جاب الأفق مع الكرد؛ فأيقن أن ليس للكردي إلا الريح…
هذا هو ساحرنا الذي يعرف كيف يفاجئ القارئ والمتلقي، وكان يعلم ثقل ما يقال بكامل وضوحه؛ إذ لابد من إضافة بعض اللعب والفوضى وبعض السخرية حتى لا تكرر اللغة نفسها …وكان يعلم أن أصعب الطرق هي الطرق الواضحة؛ إذ لا مجال للمغامرة فيها؛ فكان يجيد انجاب الكلمات والسياقات التي تصنع المفاجأة و الدهشة؛ فقد أدهشنا في مواطن كثيرة؛ “لا دور لي في القصيدة إلا إذا انقطع الوحي؛ والوحي حظ المهارة إذ تجتهد” وأدهشنا عندما قال:”من سوء حظي أني نجوت مرارًا من الموت حبًا، ومن حسن حظي أني ما زلت حيًا لأدخل في التجربة ” وأبهرنا عندما عرف القصيدة:على “أنها رمية نرد على قطعة من ظلام تشع وقد لا تشع؛ فيهوي الكلام كريش على الرمل” وأبهرنا عندما عرف الحب حين قال: ” ما هو الحب في رأيك؟ أن تبتسم حين يبدأ أحدهم بالحديث معك، دون أن يخبرك شيئًا مميزًا؛ فقط مرحبًا”
ومع أنه ألهب عواطفنا إلا أنه كان يعرف أهمية أن لا تكون العاطفة هي العنصر الوحيد المتواجد في النص.
وإن كان شاعرنا قد سحرنا بالحروف؛ فقد أسرنا بالإلقاء أكثر فحضوره في إلقاء القصيدة مبحث آخر، وإن المزاوجة بين نصه الشعري وإلقائه السحري لا ينتج عنها إلا ملحمة، وما أكثر ملاحمه، وفي الختام نقول لشاعرنا:
“ربما ما زلت حيًا في مكان ما” نعم أنت حي في القدس وفي بيروت وفي البيوت التي مات أهلها ومازال اللوز يزهر فيها كل عام بانتظام؛ فالسلام لك وعليك ولرغيف أمك الساخن ولفنجانها الحزين…ولأرض كانت تسمى فلسطين وصارت تسمى فلسطين.