حدودي السماء بقلم ملاك عرامين
العالم الان – أن تكون من ذوي الاحتياجات الخاصة هذا يعني أنه بإمكان أي شخص أن يكون له الحق في تحديد ما يمكنك فعله وما لا يمكنك فعله، وهذا ما يجعلك بنظرهم ضعيف مغلوب على أمرك واهن تحتاج إلى من يساعدك، ولا تستطيع أن تعتمد على نفسك في العديد من أمور حياتك، باختصار ذو احتياجات خاصة. كما أنه عندما يكون شكلك مختلف عن أقرانك هذا يجعل منك إنسان غريب غير محبذ ومن غير اللطيف النظر إليك، حيث أن الجميع ينظر إليك نظرة شفقة أو اشمئزاز لأن شكلك غير مقبول لديهم او ينظر اليك كأنك انسان نكرة لا يوجد منك فائدة. هذا ما يحدث عندما يكون الشخص لديه إعاقة في مجتمعاتنا ينبذ ويعتبر جزء انسان وليس انسانٌ كاملا. لكن هذا ما لم يحدث مع الطفل الفلسطيني عبد اللطيف غيث والذي يلقب ب عبود والذي يعتبر أيقونة للتميز والقوة، حيث انه استطاع التغلب على إعاقته فهو يعتبر نموذج يحتذى به لدى العديد من الناس، إذ يبث أمله ومرحه وطموحه لكل إنسان يعاني من علة أو نقص، غيث مسح بإرادته من قاموسه كلمة الاستسلام والخنوع.
عبود كان طفل سليم ولكنه فجأة أصيب بالتهاب السحايا عندما كان عمره تسعة أشهر في ألمانيا، حيث أن والدته كانت تدرس الماجستير هناك. كان وضع عبود خطيرا جدا لدرجة أن الأطباء قالوا لوالدته ان عبود سيموت لا محالة، ولكنها مع ذلك لم تستلم وظلت تناجي الله أن يحفظ لها ابنها وينقذه من براثين الموت، وهذا ما جرى حيث ان الله حفظ لها ابنها وخفف عن قلبها المكلوم، فهذا ابنها الأول وفرحتها الاولى الذي تحبه حبا جما، ولكنها تنصدم بعد ذلك بأنه يجب بتر أطرافه لكي يبقى على قيد الحياة، هذا الشيء كان صعب على والدي عبود بأن يكون ولدهم وفلذة كبدهم بدون أطراف، لكن ذلك انسب حل يمكن للأطباء القيام به من أجل الحفاظ على حياته، وتم القيام بستة وثلاثين عملية خلال خمسة أشهر فقط بسبب سوء وضعه وتم بتر الكثير من أطرافه إذ بترت ساقيه ويديه، هل لك ان تتخيل ان هذا الطفل كان في كل أسبوع يجرى على جسده عمليتان !! كيف لجسده الصغير أن يتحمل ذلك!؟
والدته تدعى آلاء عرُابي وهي تعد من نساء النموذجيات والقويات، لأن الذي حصل مع وَلَدها ليس سهلا على أي أم، فقد عاشت أياما صعبة في ألمانيا منذ إصابة عبود بهذا المرض اللعين، حيث انها في حينها كانت لوحدها من دون زوجها و أهلها لكي يخففوا عنها قلقها وخوفها وألمها، كانت تعيش صراعا مع نفسها و كانت تقول: “يا رب ليش صار فيني انا هيك ليش مش حدا غيري. انا وزوجي ما أذينا أي شخص في حياتنا ليصير معنا هيك”، لكن مع الوقت رضيت بقدر الله وقالت: ” قدر الله وماشاء فعل هذي ارادة ربنا واكيد ربنا اختار يصيب عبود في هذا المرض من بين الناس لأن ربنا بعرف اني قوية وراح اقدر اتعامل مع ابني وغيري يمكن ما راح يقدر يتعامل مع طفل عنده إعاقة”.
بسبب وعي آلاء عُرابي وزوجها نضال غيث وثقافتهما ومستوى تعليمها العالي وصبرهما وقدرتهما على تخطي الصعاب، استطاعا أن يتقبلا وضع ابنهم ويتقبلا شكله الجديد من دون أطراف، واستطاعا التأقلم معه أيضا، فهما نجحا في كيفية التعامل مع طفلهما، ونجحا بجدارة في تشكيل بيئة حاضنة لعبود، اهتما به اهتمام كبيرا وخاصا، إذ قاما بتربية عبود تربية سوية ولم يشعراه أبدا بأنه طفل من ذوي الاحتياجات الخاصة، بل ربياه بأنه انسان مختلف ومميز فأمه كانت تقول له: “أنتَ يا ماما ولد كتير مميز وعندك قدرات ومميزات مش موجودة عند غيرك”، وبالفعل عبود الآن يشعر بذلك، حيث ان عمره الان احدى عشر عاما، وعلى الرغم من إعاقته إلا أنه فخور بنفسه ويحب نفسه ولا يشعر أبدا بالنقص ،على الرغم من أنه لديه أخ وأخت مختلفان عنه لكنه يحب اخوته ويساعدهم في بعض الأمور، على سبيل المثال عندما كان عبود وأخيه بحر صغيران جدا كان عبود يستخدم جسده جسر لتسهيل نزول أخيه من السرير، وهذا يعود لأن أبويه كانا يستعملان معه أسلوب التعزيز أي أن بقدرته مساعدة أخيه على الرغم من صعوبة حركته، ومن خلال هذا التعزيز استطاع النجاح بفعل الكثير من الامور، واكسبه ذلك ثقة بنفسه أكثر فهو واخوته يكملون بعضهم البعض.
عندما طُلب من عبود التعريف عن نفسه قال: “أنا طفل طبيعي مثل أي طفل في العالم أنا فخور بنفسي وبحب نفسي مثل ما هي مش زعلان لأني هيك بالعكس انا مبسوط لاني بشعر اني انسان كامل”. عبود أثبت للجميع بأنه طفل مميز رغم إعاقته، لأنه استطاع القيام بمهام بالنسبة لوضعه شبه مستحيلة فهو لديه ذكاء حاد وشخصية لا تعرف المستحيل، حيث يقول كل من يعرفه أو كل من يراه بأنه طفل قريب للقلب بشوش الوجه لديه ابتسامة تسحر القلوب جميل الخلق تحبه من أول وهلة. وعندما تتحدث معه ترى في حديثه وعيا كأنه شاب وليس طفل، ويستمتع كل من يتحدث معه ويعجب كل الناس بشخصيته المميزة. إذ لا يشعرك أبدا بأنه من ذوي الاحتياجات الخاصة بل هو طبيعي ولديه قدرات تفوق الطفل الطبيعي العادي الذي لديه أطراف. هو يعتبر قدوة لأي شخص لديه احتياجات خاصة او حتى للشخص الطبيعي، فقد اعطى حافزا لجميع الناس أنه لا يوجد شيء مستحيل في هذه الحياة، فهو يعبر عن رأيه ويقول كل شخص قادر على فعل ما يريد ولا يحق لأي أحد أن يحدد قدراتي بسبب اعاقتي، ولن يحدد المجتمع من أنا وماذا سأكون حتى وان لم تتقبلني “دائرتك الاجتماعية” فسأخلق “الشكل الاجتماعي” الذي يناسبني لا الذي يناسبكم واجعله منطقة راحتي لأنني أستطيع ولأنني أنا من يحدد من سأكون عليه وليس أي أحد غيري حيث أن “ذوي الاحتياجات الخاصة” لم يكن ولن يكون تصنيفي.
عبود طفل موهوب جدا لديه العديد من المواهب سواء في البيت أو في المدرسة، فمثلا يساعد والدته في العديد من المهام المنزلية، و في كل صباح يصنع القهوة لوالديه ويصب القهوة في كؤوس وهذا شيء فعلا معجزة لأن صنع وصب القهوة يحتاج الى أصابع وهذا شيء من المستحيل تخيله، لكن عبود شعاره في الحياة لا شيء للمستحيل، أيضا من مواهب عبود الشطرنج ومن المعروف أن الشطرنج لعبة صعبة وخاصة عند الأطفال لأنها تحتاج إلى ذكاء وحنكة، لكن هو لديه حكمة في لعبة الشطرنج فيقول:” إن الشطرنج جزء من الحياة إذا لم تفشل أبدا فلن تتعلم أبدا وإذا لم تتعلم أبدا فلن تتغير أبدا”.
أيضا عبود لديه موهبة السباحة فهو سباح ماهر يسبح بطريقة تذهل العقول كأنه فعلا لديه أطراف، تعلم السباحة عندما كان عمره ثلاث سنوات عن طريق مركز تعليمي للعلاج الطبيعي والوظيفي. وأيضا يوجد لدى عائلته بركة خاصة وكان يسبح فيها كل أسبوع، كما أن والديه قاما بعمل طرف صناعي له على شكل ذيل سمكة، وكان يستخدمه للسباحة وهذا ساعده أكثر على الحركة وزادت من سرعته ومرونته في تحريك الجزء السفلي من جسمه أثناء السباحة. ايضا ذهب الى مركز متخصص للسباحة للناس الطبيعيين فكانوا مدربين السباحة يشجعونه على حركات هو يحب القيام بها وقاموا بتعليمها إلى عائلته لكي يستفاد منها وتساعده على زيادة مرونة حركته، كما أنه يستطيع الكتابة بسهولة فهو لا يجد صعوبة فيها أبدا، أيضا يحب الرسم والتلوين على الرغم من أن القلم يحتاج إلى الأصابع للإمساك به والكتابة ، لكنه بالنهاية استطاع وابدع ايضا، حيث تقول والدته: “عبود بحب يكتب وخطه جدا حلو وسريع كمان على رغم من انه بالمدرسة عنده جهاز كمبيوتر لحتى يكتب فيه إلا أنه في معظم الوقت بحب يكتب بخط ايده”.
أما بالنسبة للمدرسة فمدرسته ليست متخصصة لذوي الاحتياجات الخاصة إنما هي مدرسة للطلاب العاديين، لكنها تعمل على مبدأ الدمج بين الطلاب، حيث تقوم بتحبيب الطلاب الدخول مع عبود بالكثير من النشاطات. فعندما كان في صف الاول كانت المدرسة في وقت استراحته تحضر الطلاب الأكبر منه سنا لكي يشاركوه بالأنشطة واللعب معه، فهنا جعلوا جميع الطلاب بالمدرسة يتعرفوا عليه ويتقبلونه، بالإضافة إلى ذلك عندما يكبر عبود عاما كانت المدرسة سنويا تدمج صف أول مع صفه، لكي يتم تعريفهم عليه وتعليمهم فكرة التقبل. أيضا هذه المدرسة بشهادة والدته متعاونة جدا معه ومع وضعه، فقد آمنت له العديد من الخدمات التي تسهل حركته مثل: المصاعد ،وممرات كبيرة وواسعة، وأيضا المكان الذي يجلس به في صفه واسع. وتضيف أيضا والدته بأن تعامل المعلمين معه جدا رائع، فهم وجدوا تحدي كبير في التعامل معه لأن تخصصهم لا يندرج في التعامل مع طفل من ذوي الاحتياجات الخاصة، لذلك كانوا يلجأون إلى مرشدين مختصين لكي يعلموهم على كيفية التعامل معه. كما ان المدرسين دائما يحاولون إيجاد طريقة تناسبه وتلائمه في العديد من الأنشطة والفعاليات حتى يتسنى له للمشاركة فيها، فعلى سبيل المثال أستاذ الموسيقى يعلم الطلاب العزف على البيانو وبما ان عبود ليس لديه أصابع فهو قام بإيجاد آلة موسيقية تناسبه، فقام بتعليمه التطبيل على الطبلة وأعطاه فقرة طويلة لكي يشعر بأنه مثله كمثل أولاد صفه وباستطاعته العزف لفترة طويلة، وايضا معلمة الرياضة تضع له دوائر وتجعله يقفز عليه، وتضع له مسار خاص له للمشي والركض فيه، لكي تعطيه نشاط وتعلمه على أهمية الحركة، وأيضا تعطيه بعض الأثقال ليحملها وهذا شيء مخصص له فقط. أما باقي المواد مثل الرياضيات والانجليزي والعربي فهم يتعاملون معه بشكل طبيعي ولا يوجد بينه وبين اولاد صفه أي اختلاف، فالعديد من الوظائف يقوم بتسليمها قبل اولاد صفه. أيضا يوجد لعبود مساعدة له في المدرسة تساعده في عدة مواضع على سبيل المثال: عندما يحتاج إلى كتاب هي تعطيه له، وعندما يريد أن يتحرك خارج الصف وعندما يريد الصعود على المصعد وما إلى ذلك.
أما بالنسبة لعلاقاته الاجتماعية في المدرسة فشخصيته اجتماعية يستطيع بشخصيته وروحه الجميلة جذب ولفت انتباه الجميع بغض النظر عن الجيل او عن الشكل، فهو لديه القدرة على التواصل مع المحيط بشكل طبيعي والانخراط مع الجميع على الرغم من كل العوائق الحركية لديه وهذه ميزة لا تعد أبدًا سهلة بالنسبة لشخص مثله، الجميع من طلاب المدرسة وبلا استثناء يحبونه ويلعبون معه، بل ويعتبرونه زميلا طبيعيا لا يعاني من أي نقص. فهو مقبول ومنتمي ومندمج معهم جميعا.
قصة عبود تثبت لنا أنه من رحم المعاناة يولد الابداع والتميز، وأيضا بأنه لا وجود للمستحيل في حياتنا فبإمكان أي إنسان بالإرادة والعزيمة اجتياز المصاعب والعقبات. هذا الطفل يجعل كل من يراه يعلم انه طفل خارق وبطل حقيقي. فهو تفوق بذلك على الجميع واثبت بان إعاقته ابدا لا تعيقه عما يريده حيث ان طموحه تخطى حدود السماء.