مسارات المرحلة الثانية في الحرب الروسية ـ الأوكرانية وسيناريوهاتها المتوقعة – عمر الرداد
العالم الان. تتواصل الحرب الروسية ـ الأوكرانية في إطار ما أعلنته روسيا ببدء المرحلة الثانية، بعد انتهاء المرحلة الأولى، وبالرغم من تعدد السيناريوهات والروايات التي يمكن من خلالها تفسير أسباب الانسحاب الروسي من محيط كييف، إلّا أنّ هناك روايتين: الأولى تبنّتها كييف والغرب وترجع الانسحاب إلى عاملين متزامنين، وهما: مشاكل التزويد والدعم للقوات الروسية، إضافة إلى مشكلات في الاتصالات والقيادة وطول القوافل العسكرية وصعوبة تأمين الإمدادات لها، وصمود الجيش والمقاومة الأوكرانية، لا سيّما بعد الدعم التسليحي السخي الذي قدّمته دول أوروبية وحلف الناتو لأوكرانيا، بما في ذلك منظومات الصواريخ المضادة للدروع “واللاو وستينغر وجافلين”، إضافة إلى أنواع مختلفة من الطائرات المسيّرة، فيما الرواية الثانية التي لم تأخذ مساحات كافية من النقاش، هي أنّ الانسحاب الروسي جاء لإفساح المجال أمام المفاوضات بين موسكو وكييف، وإيجاد بيئة مناسبة لتلك المفاوضات، وفي تقديرنا أنّ الرواية الروسية لتبرير الانسحاب تحيطها شكوك عميقة أكدتها تصريحات لاحقة للناطق باسم الكرملين “ديمتري بيسكوف” تضمنت اعترافات بتكبد روسيا خسائر كبيرة في قواتها المسلحة في أوكرانيا.
بحث روسي عن نصر خاطف مقابل استزاف غربي
في تطورات المرحلة الثانية التي تركز على مناطق شرق وجنوب شرق أوكرانيا “لوغانتس ودونباس”، حسب الاستراتيجية الروسية التي تبحث عن نصر “خاطف” عبر ربط شبه جزيرة القرم “برّياً” مع مناطق الدونباس، والتوسع منها شرقاً لضمّ أراضٍ أوكرانية أخرى، جعل المعركة تتركز في مدينة ميربول الواقعة على بحر آزوف ومحيطها، مقابل استراتيجية أوكرانية مدعومة من الناتو، جوهرها إطالة أمد المعركة واستنزاف القوات الروسية.
أهم ما يميز معارك الجنوب الأوكراني زيادة منسوب الضربات الروسية كمّاً ونوعاً
أهم ما يميز معارك الجنوب الأوكراني زيادة منسوب الضربات الروسية كمّاً ونوعاً
مسارات المرحلة الثانية غير معزولة عن المرحلة الأولى؛ إذ ما زالت الاستراتيجيتان، الروسية والأوكرانية مع حلفائها الغربيين، تستند لمقاربة روسية تبحث عن تحقيق نصر خاطف في شرق وجنوب أوكرانيا، استناداً لوجود حاضنة مؤيدة للقوات الروسية وفقاً لمرجعيات الديموغرافيا، يقابلها مقاربة غربية هدفها إطالة أمد الحرب واستنزاف القوات الروسية.
مسارات الحرب في مرحلتها الثانية
غير أنّ أهم ما يميز معارك الجنوب الأوكراني زيادة منسوب الضربات الروسية، كمّاً ونوعاً، وتنفيذ واعتماد ما يُعرف عسكرياً باستراتيجية الأرض المحروقة، وهو ما أظهرته تسريبات إعلامية “صور وفيديوهات” روسية وأوكرانية في مدن خاركيف وماريوبول وخيرسون، مقابل تصعيد أوكراني غربي يتم تنفيذه عبر (3) مسارات، وهي:
الأول: تعزيز صمود المقاتلين الأوكرانيين في ميريوبول ومحيطها، وإفشال خطط روسيا للتوسع شرق الدونباس عبر عمليات نوعية تستهدف عزل الكتائب الروسية وتقطيع أوصالها، واعتبار المقاتلين المتحصنين في مصنع أوزفستال في ميريوبول نموذجاً للمقاومة، وهو ما دفع الرئيس بوتين لإعلان النصر في هذه المدينة دون اقتحام “أوزفستال”.
التوسع في عمليات إمداد أوكرانيا بالأسلحة، النوعية والفتاكة، أحد أبرز عناوين المرحلة الثانية
الثاني: توجيه ضربات نوعية للقطع البحرية الروسية في آزوف والبحر الأسود، وهو ما جرى تنفيذه باستهداف الطراد “موسكافا” الذي شكّل عنواناً لما يمكن وصفه بالغرق الروسي في أوكرانيا، ورغم تعدد الروايات بين ضربه بصواريخ أوكرانية وفقاً لكييف، أو وقوع تفجير داخله وفقاً لموسكو، فإنّ ردّ موسكو بضرب مصنع صواريخ بالقرب من كييف في اليوم التالي يعطي مؤشرات على إمكانية ترجيح الرواية الأوكرانية، وهو ما أكدته مصادر استخباراتية “بريطانية وروسية”، ومن غير المستبعد أن تتواصل عمليات استهداف القطع البحرية العسكرية الروسية في بحري آزوف والبحر الأسود في حال تطور المعارك في الجنوب، لا سيّما أنّ الطراد الروسي”موسكافا” لم تكن أهميته في القدرة على إطلاق صواريخ باليستية بعيدة المدى من البحر فقط، بل لكونه مركز القيادة والتوجيه والتحكم للأسطول البحري العسكري الروسي.
الثالث: توجيه ضربات أوكرانية نوعية لأهداف عسكرية ومراكز دعم لوجستي داخل الأراضي الروسية، عبر الصواريخ أو طائرات هيلوكوبتر وطائرات مسيّرة “أمريكية وأوروبية” من الإمدادات الغربية، وهو ما يتوقع معه أن تتصاعد العمليات في هذه المرحلة بضربات جديدة لأهداف عسكرية ومراكز دعم لوجستي داخل الأراضي الروسية، بالتركيز على مراكز تخزين الذخائر والوقود، وهو ما تم باستهداف خزانات وقود ضخمة داخل الأراضي الروسية في منطقة “بيلوغرود” التي تبعد (40) كم عن الحدود الأوكرانية، الأمر الذي سيمهد لإطالة أمد الحرب واستفزاز موسكو لردود فعل متشنجة، على غرار ما فعلته بقصف مصانع عسكرية في كييف بعد ضرب الطراد الروسي وإغراقه.
ملفات جديدة ضد موسكو
بيد أنّ المرحلة الثانية أظهرت متغيراً آخر على المستوى الاستراتيجي، وهو انتقال موسكو من وضعية الهجوم والمبادرة على صناعة الفعل إلى وضعية الدفاع ورد الفعل، لا سيّما أنّ المواقف السياسية لموسكو وغير بعيد عنها تطورات المشهد العسكري أصبحت تتم تحت عناوين رد الفعل، لا سيّما أنّ أمريكا والغرب يفتحان مسارات وعناوين متعددة في الحرب مع روسيا، فبالإضافة إلى مواصلة إصدار قرارات بعقوبات اقتصادية جديدة ضد موسكو، تشكّل ملفات “الإبادة الجماعية” والكشف عن مقابر جماعية، بالتزامن مع اتهامات لموسكو باستخدام أسلحة كيماوية ونوايا أخرى لاستخدام أسلحة جرثومية وربما نووية بمستويات تخصيب منخفض” تكتيكية”، تشكّل عناوين للحملة الغربية المضادة لروسيا، فيما يتواصل التركيز الغربي على قضية اللاجئين بلغ عددهم حوالي (5) ملايين، والنازحين الأوكرانيين بلغ عددهم بحدود (10) ملايين داخل أوكرانيا، بوصفها قضية إنسانية، ورغم الشكوك بإمكانية تحقيق نجاحات في ملف الإبادة الجماعية، إلا أنّ المؤكد أنّه أحد العناوين التي تحسب موسكو حساباً لها، لا سيّما أنّ الرئيس الأوكراني بدأ بممارسة ضغوط على الغرب لاعتبار روسيا دولة راعية للإرهاب، فيما تطال الاتهامات قيادات في الدولة الروسية على رأسها الرئيس بوتين.
مصادر الأسلحة الأوكرانية
التوسع في عمليات إمداد أوكرانيا بالأسلحة “النوعية والفتاكة” أحد أبرز عناوين المرحلة الثانية، وقد أصبح واضحاً أنّ مصادر تسليح أوكرانيا استقرت خلال هذه الحرب عبر (3) مصادر وهي:
أوّلاً: ما يتوفر لدى الجيش الأوكراني من أسلحة، بما فيها تلك التي استولى عليها من القوات الروسية، ويبدو أنّ هذه الأسلحة لم تعد كافية أو تم استنفادها خلال شهرين من الحرب، بدلالة الطلب المتكرر من القيادات الأوكرانية لتزويدها بمزيد من الأسلحة والذخائر.
انتقال موسكو من وضعية الهجوم والمبادرة على صناعة الفعل إلى وضعية الدفاع ورد الفعل
انتقال موسكو من وضعية الهجوم والمبادرة على صناعة الفعل إلى وضعية الدفاع ورد الفعل
ثانياً: ما يتوفر لدى دول أوروبا الشرقية “بولندا، سلوفاكيا، التشيك… إلخ” من دبابات ومنظومات صواريخ وطائرات مقاتلة من الحقبة السوفييتية، ووفقاً لتسريبات متقاطعة فإنّ غالبية دول أوروبا الشرقية التي كانت تتبع للاتحاد السوفييتي تخلصت من منظومات تسليحها من الأسلحة السوفييتية، بما فيها من طائرات ميغ 29، وصواريخ “إغلا وسام” ودبابات “تي 72” وغيرها من أسلحة، وفي تقديرنا أنّ هذه القضية تهدف لتحقيق أهداف استراتيجية بعيدة المدى بالنسبة إلى أمريكا والدول الأوروبية وخاصة بريطانيا، وهي تجديد تسليح جيوش دول أوروبا الشرقية بأسلحة غربية، وبما يحقق هدف إنعاش صناعة الأسلحة الغربية، وفكّ أيّ ارتباطات لهذه الدول مع الاتحاد الروسي.
ثالثاً: إمدادات الأسلحة الأمريكية والبريطانية “الجديدة” من صواريخ وطائرات ومدافع “هاوتزر وقيصر الفرنسي” وطائرات مسيّرة وأخرى “هوليكوبتر” وصواريخ مضادة للسفن، وربما تعطي نوعيات الأسلحة الجديدة المقدمة لأوكرانيا مؤشرات على طبيعة واتجاهات المعارك القادمة التي تستهدف ليس القوات الروسية الغازية فقط، بل أهدافاً داخل روسيا أيضاً، فيما يجمع خبراء أسلحة أنّ إمدادات الأسلحة الأمريكية والبريطانية ستسهم في إدامة المعارك لأطول مدة ممكنة، لكنّها ستبقى غير قادرة على حسم المعارك لصالح أوكرانيا، وهو ما ينسجم مع الاستراتيجية الغربية الهادفة لاستنزاف القوات الروسية.
أبعاد استخدامات الأسلحة في الحرب
قضية الأسلحة المستخدمة في الحرب من قبل روسيا والغرب، بما فيها الأسلحة البيولوجية والكيماوية إضافة إلى النووية، تطرح (3) أبعاد، وهي:
أولاً: أنّ الأطراف المتحاربة وعبر الدعاية الإعلامية تتعامل مع استخدامات الأسلحة باعتبار الحرب في أوكرانيا ساحة لعرض أسلحتها الجديدة وتجريبها بالذخائر الحية، وهو ما يفسر الإصرار الأمريكي على نزع الدعاية عن الأسلحة الروسية، وإثبات قوة أسلحتها، وخاصة أنظمة الدفاع الجوي والصواريخ المضادة للدروع، فيما يتبع أيّ توصيف روسي لصواريخها التأكيد على دقتها في إصابة أهدافها.
ثانياً: الدول المنضوية التي كانت تتبع للاتحاد السوفييتي وجدت في الحرب فرصة للتخلص من أسلحتها السوفييتية والحصول على أسلحة أوروبية وأمريكية جديدة، وهو ما تمّت ترجمته بإرسال دبابات وصواريخ وطائرات “سوفييتية” بسخاء إلى أوكرانيا، لا سيّما من بولندا والتشيك وسلوفاكيا.
ستعمل روسيا على استثمار الخلافات بين أوروبا وأمريكا تجاه الحرب، والذي أبرزته مواقف ألمانيا وفرنسا، لا سيّما على خلفية فشل إيجاد بدائل موضوعية لمصادر الطاقة الروسية
ثالثاً: من الواضح أنّ هناك تركيزاً غربياً حول احتمال استخدام أسلحة جرثومية وكيماوية من قبل روسيا، تستند لـ”معلومات استخبارية”، وفي تقديرنا أنّ قرار استخدام مثل هذه الأسلحة سيكون في إطار ردود فعل متشنجة لموسكو على ضربات موجعة في البر والبحر، على غرار الاستراتيجية الروسية في سوريا، فيما بدأت اتهامات روسية لأمريكا باستخدام أسلحة كيماوية واتهام القوات الروسية بالمسؤولية عنها، ولا يُستبعد هنا أن يتم تكرار سرديات الاتهامات باستخدام الأسلحة الكيماوية كما جرى في سوريا، باتهامات متبادلة بين أطراف الصراع.
النتائج الأولية للعمليات الحربية خلال شهرين من عمرها أبرزت انتكاسات روسية وحالة انكشاف نزعت الهالة عن الجيش الأحمر، لا سيّما بعد فشل الجيش الروسي بإسقاط كييف، فيما جاء الإعلان عن انتصار بإسقاط “ميريوبول” ليعوّض تلك الانتكاسات، إلا أنّ تلك العمليات أكدت حقيقة أنّه كلما طال امد الحرب، خسرت روسيا “عسكرياً واقتصادياً وسياسياً”، وأنّ القوة العسكرية الضاربة وحدها ليست معياراً وحيداً لتحقيق الانتصار، وفي المدى المنظور ووفقاً لمعطيات عناوينها إصرار روسي على إنجاز نصر عسكري “خاطف” في أوكرانيا، يقابله إصرار أمريكي وغربي على إطالة أمد الحرب، لما لهذه الحرب من تداعيات على النظام الدولي لعقود قادمة، فإنّ موعد 9 أيار (مايو) القادم ليس موعداً ثابتاً لوضع حدٍّ لهذه الحرب، بمرجعية التزامن مع إعلان النصر بذكرى انتصار الاتحاد السوفييتي على النازية في الحرب العالمية الثانية، لا سيّما مع غياب استراتيجية واضحة لدى موسكو تحدد أهدافها من هذه العملية، وتراجعها وتبدلها، فيما تتعثر المفاوضات بين موسكو وكييف، في ظل مطالب روسية جوهرها مطالبة كييف بإعلان الاستسلام، في الوقت الذي تفتح فيه جسور الإمداد والدعم العسكري والمالي والسياسي من واشنطن والغرب لأوكرانيا.
مقاربات روسية وأخرى غريبة
تدلّ معطيات كثيرة على أنّ الحرب في أوكرانيا تتجاوز حدودها في ظلّ مقاربات روسية وأخرى غربية، كشفت عمق الفجوة بين استراتيجية روسية هدفها منع أوكرانيا من الانضمام إلى حلف الناتو، وبالتالي تهديد الأمن القومي الروسي، واستراتيجية غربية ترى أنّ القيادة الروسية تهدف إلى التمدد في أوروبا، واستعادة سيطرتها على دول أوروبا الشرقية التي كانت تتبع للاتحاد السوفييتي، وأنّه لا بدّ من “إفشال” الاستراتيجية بتوفير كلّ دعم ممكن لأوكرانيا، وذلك باستنزاف القوات الروسية، والرهان على أنّ العقوبات الاقتصادية وعزل موسكو سيدفعان بالرأي العام الروسي لإعلان مواقف والقيام بتحركات ضد القيادة الروسية.
انتكاسات روسية نزعت الهالة عن الجيش الأحمر
انتكاسات روسية نزعت الهالة عن الجيش الأحمر
ورغم ما يتردد حول رهانات روسية، بعد تحديد أهدافها بـ”تحرير الدونباس ولوغانتس” والسيطرة عليها وضمّها للجمهوريات الانفصالية، بإعلان روسيا النصر بتاريخ “9/5″، وهو الموافق لذكرى انتصار روسيا على النازية في الحرب العالمية الثانية، إلا أنّ هذا التاريخ لم يعد مؤكداً الوصول إليه وقد تحققت الأهداف الروسية، وهو ما يعمل عليه الغرب.
الفجوة بين المقاربات الروسية من جهة، ومقاربات الغرب خاصة “أمريكا وبريطانيا”، تتسع يوماً بعد يوم، في ظلّ إدراك غربي أنّه كلما طال أمد الحرب، تورطت روسيا في أوكرانيا، وهو ما يطرح تساؤلات حول مستقبل المفاوضات بين موسكو وكييف.
ورغم ذلك، يبقى سيناريو التوصل إلى صفقة سرّية تقدّم فيها موسكو تنازلات سيناريو وارداً بمضامين؛ جوهرها تعهدات أوكرانية بعدم انضمام كييف إلى الناتو، والموافقة على انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي بوصفه صيغة اتحادية غير عسكرية، فيما ستعمل روسيا على استثمار الخلافات بين أوروبا وأمريكا تجاه الحرب، والذي أبرزته مواقف ألمانيا وفرنسا، لا سيّما على خلفية “فشل” إيجاد بدائل موضوعية لمصادر الطاقة الروسية
النصدر: حفريات