المصالحة بين أنقرة ودمشق.. السياقات والمآلات بقلم: عمر الرداد
العالم الان – على هامش لقاءاته مع الرئيس الأوكراني بحضور الأمين العام للأمم المتحدة، أكد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وبما لا يدع مجالاً للشك، استدارة القيادة التركية بالانفتاح على دمشق، بمرجعية مقاربات تركية جوهرها “ليس لدى تركيا أطماع في أراضي سوريا، ولا يستبعد إجراء محادثات بين أنقرة ودمشق، وأنّ الولايات المتحدة، وحلفاءها، تغذي الإرهاب في سوريا”، وهو ما وصف بالمفاجأة لكثير من الأوساط التي تتابع عن كثب الملف السوري وتحولات القيادة التركية في تعاطيها مع العديد من ملفات المنطقة، وذلك بعد تصريحات وزير الخارجية التركي التي دعا فيها إلى “مصالحة بين النظام السوري والمعارضة”، وتعديل هذا التصريح لاحقاً بأنّ تركيا تدعو إلى “تسوية بين النظام والمعارضة السورية”.
عملياً، الموقف التركي ليس جديداً؛ فاستعراض محطات تطور علاقات تركيا وكيفيات إدارتها لملفاتها الإقليمية والدولية، بما فيها الملف السوري، في ضوء تحولات عميقة عنوانها “تصفير المشاكل”، هي التي تفسر إعادة علاقات أنقرة مع “الرياض وأبو ظبي”، والتهدئة مع “القاهرة”، واستئناف علاقاتها مع إسرائيل، و”مسك العصا من منتصفها” في الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا، وبالتزامن اتخاذها إجراءات ضد تشكيلات الإسلام السياسي، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين.
مرجعيات التحولات التركية ترتبط بعاملين؛ وهما: تردّي الأوضاع الاقتصادية في تركيا، والاستعداد للانتخابات الرئاسية التي ستجري في منتصف العام المقبل، تلك الانتخابات التي تؤكد تقديرات تركية وأخرى غربية تتابع الشأن التركي أنّ فرص فوز الرئيس أردوغان وحزبه “العدالة والتنمية” فيها ليست مضمونة، خاصة إذا نجحت أحزاب المعارضة التركية في توحيد صفوفها، بالتزامن مع استمرار تداعيات الأزمة الاقتصادية على الأتراك، ولا سيّما خارج المدن الكبيرة التي تشكّل القواعد الرئيسة لحزب العدالة.
في الملف السوري، هناك مرتكزات للقيادة التركية تجاهه؛ عنوانها ملف الأكراد في الشمال السوري، والحيلولة دون قيام كيانات كردية مهما كانت، لحسابات تركية أمنية وإستراتيجية مرتبطة بالحيلولة دون تحقيق أيّ طموحات “استقلالية” لأكراد تركيا، هذا العنوان انعكس في تعريف تركيا للإرهاب، وربطه بالفصائل الكردية المقاتلة، والتأكيد دوماً على موقف حازم بـ “الحفاظ على وحدة أراضي الدولة السورية”، وقد تسبب هذا الموقف بخلافات عميقة ما تزال قائمة بين أنقرة وواشنطن والعواصم الأوروبية، فيما العنوان الثاني كان الدعم التركي لما يُعرف بالمقاومة السورية، بما فيها من تعدد شمل فصائل وتشكيلات “الجهادية الإسلامية” وعلى رأسها جبهة النصرة التابعة للقاعدة، بالإضافة إلى عناوين فرعية أخرى، من بينها “الإصرار على إنشاء مناطق آمنة شمال سوريا”، والتعاطي مع قضية اللاجئين السوريين في تركيا بـ”براغماتية” بوصفهم ورقة تهديد ضد أوروبا، أو اتخاذ إجراءات بإعادة أكبر عدد منهم لسحب البساط من تحت أقدام المعارضة التركية التي تلوّح بورقة اللاجئين السوريين.
مرجعيات التحولات التركية ترتبط بعاملين: تردّي الأوضاع الاقتصادية في تركيا والاستعداد للانتخابات الرئاسية التي ستجري في منتصف العام المقبل
الموقف التركي الأخير تجاه “النظام السوري” ليس جديداً، فقد جاء تتويجاً للسياسات والتحولات التركية العميقة بالمرجعيات التي تم ذكرها، لكنّ هذا لا ينفي أنّ توقيتها مرتبط بالقمّة التي عقدت بين الرئيسين؛ بوتين وأردوغان، والتنازلات المتبادلة بينهما، وتداعيات الحرب الروسية ـ الأوكرانية، فما قدّمه الرئيس بوتين لتركيا “في الملفات الاقتصادية تحديداً” يستجيب لمتطلبات ضاغطة على الرئيس أردوغان، الذي لا يجد مشكلة في الانفتاح على القيادة السورية ضمن توجهات شاملة في الإقليم لاستئناف العلاقات مع دمشق، بما فيها من قبل دول الخليج ومصر والأردن، وتحول دون الطموح الكردي بالاستقلال.
لا يمكن المبالغة في سيناريوهات العلاقات القادمة بين أنقرة ودمشق، التي ستبقى خاضعة لتفاصيل كثيرة حول المراكز الحدودية ومناطق سيطرة حلفاء تركيا ومستقبلها، وتطورات إقليمية ودولية
بيد أنّ انفتاح أنقرة الذي قوبل بردود فعل رافضة من قبل المعارضة السورية، التي نظمت مظاهرات في شمال سوريا، أحرقت خلالها العلم التركي، واتهمت القيادة التركية بخيانة الثورة والشعب السوري، لن يكون متسرعاً؛ لأنّ الملفات الخلافية مع دمشق أكبر من أن يتم حلها بمجرد الإعلان عن تواصل بين أنقرة ودمشق، ومن المؤكد أنّ أنقرة تراهن على دور وثقل موسكو وحجم تأثيرها على القيادة السورية، في التوصل إلى تفاهمات غير مترابطة في الملف السوري؛ أي عزل الملفات، وأبرزها علاقات تركيا مع فصائل المعارضة الجهادية وغير الجهادية في شمال سوريا، ومواقف أنقرة تجاه ملف اللاجئين السوريين وإعادتهم إلى سوريا، والمناطق الآمنة التي تطالب أنقرة بإنشائها في شمال سوريا، ومواقف دمشق تجاه الملف الكردي في شمال وشرق سوريا، وما يمكن أن ينشأ من توافقات بين الجانبين بخصوصه، ودور أنقرة في اللجنة الدستورية وإسهاماتها في الدستور الجديد من خلال حلفائها السوريين، وملف العلاقة بين دمشق وطهران الذي سيكون خاضعاً لمتطلبات روسية أوّلاً، مرجّح أنّها ستشهد توافقاً بين موسكو وأنقرة.
انفتاح أنقرة الذي قوبل بردود فعل رافضة من قبل المعارضة السورية
انفتاح أنقرة الذي قوبل بردود فعل رافضة من قبل المعارضة السورية
ورغم ما سبق، لا يمكن المبالغة في سيناريوهات العلاقات القادمة بين أنقرة ودمشق، التي ستبقى خاضعة لتفاصيل كثيرة حول المراكز الحدودية ومناطق سيطرة حلفاء تركيا ومستقبلها، وتطورات إقليمية ودولية، عنوانها علاقات موسكو الدولية ومآلات حربها في أوكرانيا، بالإضافة إلى مستقبل الاتفاق النووي بين إيران وأمريكا، والإستراتيجية الأمريكية الخاصة بدعم الأكراد لمواجهة “داعش” والإرهاب، كما أنّ مدى الثقة التي توليها موسكو لأنقرة ستبقى محدداً من محددات مستقبل تلك المصالحة، في ظل سياسات براغماتية للرئيس أردوغان جعلت من احتمالات عودته عن قراراته أمراً وارداً، لا سيّما أنّ أنقرة بنت علاقاتها مع موسكو في سياقات كونها ورقة ترفعها بوجه واشنطن والعواصم الأوروبية، التي ما تزال لا ترى في أنقرة عضواً موثوقاً في حلف الناتو، وأنّها غير مؤهلة لتحظى بالعضوية في الاتحاد الأوروبي