كيف نقرأ التصعيد الإيراني داخلياً وخارجياً؟- عمر الرداد
العالم الان – تشهد ملفات إيرانية تصعيداً جديداً تجسد في عنوانين؛ وهما: الأوّل داخلي مرتبط بانتفاضة متصاعدة بعد مقتل “مهسا أميني” تحولت معها أميني إلى أحد عناوينها الأيقونية، على غرار “محمد البوعزيزي” في الثورة التي أطاحت بنظام زين العابدين بن علي في تونس، والثاني خارجي عكسه التصعيد الإيراني على المستوى العسكري بإعادة التوتر إلى خليج سلطنة عُمان بإطلاق الطائرات المسيّرة تجاه ناقلات النفط وتهديد التجارة الدولية، وقصف قواعد عسكرية تتبع للتحالف وأمريكا في منطقة شرق الفرات السورية، والإعلان عن إعادة تخصيب اليورانيوم بنسبة (60%)، وهي النسبة المعروفة دولياً للاقتراب من مرحلة صناعة أسلحة نووية.
ولعلّ القاسم المشترك بين مخرجات وأهداف هذا التصعيد الإيراني الجديد بالنسبة إلى القيادة الإيرانية هو أنّ التصعيد الداخلي المرتبط بانتفاضة “أميني” يُشكّل المرجعية والباعث الرئيس في التصعيد الخارجي الذي تمارسه القيادة الإيرانية، لا سيّما أنّ الانتفاضة الجديدة التي انطلقت منذ أيلول (سبتمبر) الماضي تجاوزت سردية مقتل فتاة إيرانية من أصول كردية بحجة عدم التزامها بقانون لبس الحجاب الذي تعاقب “شرطة السلوك” من يخرق ذلك القانون، فهذه الانتفاضة تتميز بشمولها الإثنيات المشكّلة للشعوب الإيرانية، بما فيها الشعوب الفارسية، وتخترق جدران “المذهبية” التي تشكّل عصب النظام الإيراني، بالمشاركة الواسعة من قبل “الشيعة” الذين يُعدّون الحاضنة الشعبية للنظام الإيراني، كما أنّها انتفاضة شاملة بتنوعها القطاعي، فهي تشمل التجار والجامعات والعمال والمعلمين وقطاعات أخرى متعددة، ولعلّ أبرز ما يلفت النظر على مستوى القطاعات المشاركة في الانتفاضة “ما يتردد حول مشاركة عائلات وأبناء الأجهزة الأمنية الإيرانية، بما فيها الحرس الثوري، والجيش الإيراني”، ذلك أنّها انتفاضة على خلفية قضايا برنامجية مطلبية مرتبطة بسوء الأحوال المعيشية، بالإضافة إلى مقاربات منظومات حقوق الإنسان.
هذه الانتفاضة تتميز بشمولها الإثنيات المشكّلة للشعوب الإيرانية، بما فيها الشعوب الفارسية
هذه الانتفاضة تتميز بشمولها الإثنيات المشكّلة للشعوب الإيرانية، بما فيها الشعوب الفارسية
بعيداً عن “المبالغات” في تقدير نتائج انتفاضة “أميني”، فبالرغم من أنّها تُشكّل تهديداً جدياً للنظام الإيراني يختلف عن الانتفاضات السابقة، وهو ما تدركه القيادة الإيرانية وتخشاه، فإنّ حجم ومستوى هذا التهديد ربما لن يصل إلى نتيجة “إسقاط النظام الإيراني”، فما تزال القيادة الإيرانية تسيطر على الانتفاضة التي تشير إحصائيات إلى أنّ عدد القتلى منذ أيلول (سبتمبر) أصبح يقترب من الـ (400) قتيل، وطبيعة الانتفاضة الجديدة هي التي تفسر التصعيد الخارجي الذي بدأت القيادة الإيرانية بممارسته، فتهديد الملاحة البحرية في مياه الخليج، وإطلاق المسيّرات والصواريخ الإيرانية ضد قواعد أمريكية في سوريا، وضرب مقرات الأحزاب الكردية “الإيرانية” في كردستان العراق، غير بعيدة عن مقاربة إيرانية عنوانها “تصدير الأزمة الداخلية” إلى الخارج، وإرسال رسالة بقدرة إيران على “العبث” بالأمن الإقليمي في المنطقة.
أهمّ محطتين جديدتين ستسهمان في تعميق أزمات القيادة الإيرانية هما: سيطرة الجمهوريين على الكونغرس الأمريكي، وعودة نتنياهو على رأس حكومة إسرائيلية يمينية متطرفة
القيادة الإيرانية، بما تمثله من نظام شمولي، لا تملك حلولاً لمواجهة الانتفاضات إلا باستخدام أقسى مظاهر القوة والمواجهة، بما في ذلك إطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين، وتفعيل القضاء بإصدار أحكام بالإعدامات وتنفيذها بشكل فوري، وشنّ حملات إعلامية لإثبات تورط أجانب في المظاهرات، في ظل حالة إنكار للواقع، وتبنّي سرديات معلبة في تفسير الانتفاضة، كما هو حال الانتفاضات الأخرى، فكل انتفاضة أو حراك في إيران مرتبط بتوجيهات قوى غربية وأجهزة مخابراتية “الاستكبار العالمي”، تتعاون معها قوى إقليمية في المنطقة تستهدف الثورة الإسلامية وقيادتها والشعوب الإيرانية، وتتزامن تلك الانتفاضات دوماً مع نشاط غير مسبوق لفصائل “الإرهاب السنّي التكفيري” التي تنفذ عمليات تفجير تستهدف الأبرياء الإيرانيين في المساجد والأماكن الدينية “الشيعية”.
انتفاضة “أميني” تعكس اتجاهات أزمات القيادة الإيرانية التي يبدو أنّها تتعمق على الصعيدين الداخلي والخارجي، فرغم استخدام الحديد والنار في مواجهة المتظاهرين في المدن الإيرانية، إلا أنّ المواجهة بهذه الصورة تدرك معها القيادة الايرانية أنّها، مهما بلغت، لن تكون أشد من المواجهات التي شهدتها إيران خلال الثورة عام 1979 مع “السافاك”.
القيادة الإيرانية، بما تمثله من نظام شمولي، لا تملك حلولاً لمواجهة الانتفاضات إلا باستخدام أقسى مظاهر القوة والمواجهة
القيادة الإيرانية، بما تمثله من نظام شمولي، لا تملك حلولاً لمواجهة الانتفاضات إلا باستخدام أقسى مظاهر القوة والمواجهة
ورغم كل ذلك، فلا بدّ من الإشارة إلى محطات جديدة تلف الملفات الإيرانية، وانتقلت معها إلى مسارات تصعيد؛ أبرزها: أوّلاً أنّ الانتفاضة الإيرانية الحالية جادة، وتهدد مستقبل النظام الإيراني، وتضعه في موقف أضعف على خلفية تعامله معها، دون أن يعني ذلك قرب انهياره، وثانياً ظهور مواقف أوروبية جديدة تجاه القيادة الإيرانية تجسدت بمنظومة عقوبات موسعة تستهدف كيانات وقيادات إيرانية، على خلفية انتهاكات حقوق الإنسان الإيرانية في التعامل مع الانتفاضة، بالتزامن مع قيام إيران بتزويد روسيا بمسيّرات إيرانية ثبت استخدامها في الحرب مع أوكرانيا، خلافاً للقرارات الدولية، وهو ما يعني مغادرة دول الاتحاد الأوروبي مربعات الفجوة التي كانت تمايز بين مواقفها والمواقف الأمريكية تجاه الملفات الإيرانية.
غير أنّ أهمّ محطتين جديدتين ستسهمان في تعميق أزمات القيادة الإيرانية هما: سيطرة الجمهوريين على الكونغرس الأمريكي، وهو ما يعني أنّ إيران ستكون أمام مواجهة مع المشرعين الأمريكيين، تقلل من “الليونة” التي كانت عنواناً لتعاطي الرئيس الأمريكي جو بايدن مع إعادة إحياء الاتفاق النووي مع إيران، وتشكّل عودة نتنياهو على رأس حكومة إسرائيلية “يمينية متطرفة” المحطة الثانية، لا سيّما أنّ نتنياهو وفريقه الجديد لا يرى أيّ حل ممكن مع إيران إلا بتوجيه ضربات عسكرية نوعية لمنشآتها النووية، ولعلّ السؤال المطروح اليوم بعد كل تلك التطورات: هل فوتت القيادة الإيرانية فرصة التوصل إلى اتفاق نووي جديد مع بايدن قبل الانتخابات النصفية؟