السارق الخفي – ربى ريحاني
العالم الان – يقول العلماء أن نصف ظاهرة العنف هي طبيعة بشرية تعود لغريزة وجينات موجودة ضمن تكوين الإنسان وبالتالي يظهر على سلوكه أو ما يعرف ب”الأنثروبولجيا” والنصف الآخر هو نتيجة عوامل اقتصادية أو سوسيولوجية مرتبطة بالظروف السياسية والقانونية وطريقة الحكم، مع أننا لم نوجد على هذه الأرض لنُعنف أو نُحرَم من حقوقنا الإنسانية بكافة أشكالها.
ما نراه اليوم في مجتمعاتنا العربية من انتهاكات ونزاعات فردية وجماعية يدمي القلب، ويضعنا أمام واقع مؤلم يتطلب تحليل عميق ودراسة واقعية حتى نفسّر ما يجري حولنا بجدية وحيادية تامة.
الوقائع اليوم تشير إلى أن أكثر الأفراد تعنيفاً في المجتمعات العربية هي المرأة، فرغم كافة المحاولات التي بُذلت سابقاً من قبل الدول والمنظمات الإنسانية والقانونية لإيقاف العنف الموجه ضدها، إلا أن تلك الجهود لم تحقق الأهداف المرجوة بدليل أن نسبة العنف بكافة أشكاله بازدياد مستمر وبشكل مرعب، وخلال عملي لسنوات عديدة بين الإناث، لا سيما الفتيات، وجدت أن معظمهن لا يُدركن أنهن معنفات من الأساس، وإن أدركنَ ذلك فإنهن يحاولن إخفاءه. لكن الأعراض خير مؤشر، وهذا يدفعني إلى العمل بإصرار وثبات على تثقيفهن وزيادة وعيهن ليدركن أن ما يجري في حياتهن وما تخلف وراءه من حطام لا ذنب لهن فيه. لذا أرى أن على كل امرأة، بصرف النظر عن عمرها أو وضعها الاجتماعي، أن تتعرف على هذا السارق الذي ينوي سرقة روحها ونفسها وجسدها دون أن تعلم.
العنف كمصطلح هو تعريض الآخرين للأذى أما ما يحدث أمامنا قد تجاوز ذلك بكثير وأصبحنا أمام جرائم حقيقية تُفضي إلى الموت كما يصنفها القانون وتشمل القتل والاغتصاب والتشويه …إلخ ، فما كان يُفسّر على أن نصفه سيكولوجي وسلوكي ونصفه الآخر سوسيولوجي واقتصادي أصبح في مجتمعاتنا مجموع النصفين، وهذه من أخطر وأشرس أنواع الجرائم، فمن يسلم من العنف السياسي سيواجه العنف الإنساني.
الباحث النرويجي المختص في علم الاجتماع يوهان غالتونغ والمؤسس الرئيسي لدراسات السلام والصراع. وضع مفهوماً لظاهرة العنف أسماه بمثلث العنف The Violence Triangle، حيث يتربع العنف المباشر في رأس المثلث ويشبهه بالجبل الجليدي. والعنف البنيوي أو الهيكلي، والعنف الثقافي وهما في أسفل المثلث. يظهر العنف المباشر للعيان، على عكس العنف البنيوي والثقافي إذ هما خفيان رغم أننا نعلم ونحس بوجودهما.
وبالنسبة للعنف المباشر هو كل ما نراه بالعين سواء ما نشاهده في الشارع أو على شاشة التلفاز، أو مواقع التواصل الاجتماعي، أو داخل المنزل، فهو يعبر عن السلوك المدمر الذي يجتاح عالمنا، ويظهر ذلك من خلال الحروب الدامية أو الإيذاء الجسدي بكافة أنواعه وأشكاله، أو القتل، أو الاغتصاب أو منع الشخص من القيام بعمل ما قصداً أو فرض أمر عليه والتحكم بمصيره والسيطرة عليه كما يحدث للنساء اليوم.
أما العنف البنيوي أو الهيكلي ( (Structural Violenceلا يلاحظه أحد وهو غالباً جزء لا يتجزأ من النظام السائد في المجتمع، يمارس على الفئة ذات الأقلية العرقية أو الدينية أو الجنسية أو تلك التي ينظر لها بأنها ضعيفة ولا تستحق منحها حقوقها أو مساواتها وهو ما يعرف ب “حكم الأكثرية”، فالنظام السائد مثلاً يحرم المرأة من تفعيل طاقاتها وامكاناتها في المجتمع وفي حياتها الشخصية، ويعطي الرجال مثلاً الحق بالعمل وبالمشاركة الفاعلة في المجتمع ولا يعطي نفس الحق للنساء، بل يقمع ويتسلط على تلك الفئة، فهذا المجتمع يمارس عنفاً بنيوياً وهو الأشد والأكثر ممارسة على المرأة.
يمكن القول إن العنف المباشر هو في الغالب نتيجة للعنف البنيوي، فعلى سبيل المثال إذا تعرضت مجموعة من الناس نتيجة معتقدهم الديني أو انتمائهم، او جنسهم، للاضطهاد وتم استغلالهم لفترة طويلة وحرمانهم من الحياة الكريمة، فإن هذه المجموعة من الناس ستستخدم العنف المباشر في مرحلة ما لتصحيح أوضاعها.
أما النوع الثالث من مثلث العنف هو العنف الثقافي (Cultural Violence) وهو عنف مخفي أيضاً كالبنيوي، يظهر بخطاب الكراهية والترويج للصورة السيئة للطرف الآخر والتعبئة الإعلامية والنفسية ضد الطرف الآخر عن طريق التعليم والدين والاعلام والفن وما إلى ذلك. يعمل على إضفاء شرعية للعنف المباشر والبنيوي وقمع مقاومة الضحايا وهو متجذر في مجتمعنا العربي.
لقد آن الآوان لأن نبتكر طرقاً غير تقليدية وغير منفذة سابقاً لمواجهة التمييز الجندري وكل ما يندرج تحت العنف البنيوي تحديداً، يبدأ بالجهاز التعليمي بكافة المراحل الأكاديمبة. بالإضافة إلى العمل بشكل موازي على إعادة التخطيط ووضع أهداف واقعية وتغيير نمط الاستراتيجيات التي تم وضعها وتنفيذها حتى اليوم، وانتهاءً بتعديل القوانين والتشريعات وتغليظ العقوبات على مرتكبي جرائم العنف.
برأيي، فأن الحل الأول والأخير يبدأ بتصدي المرأة نفسها لهذا النوع من العنف الذي يرافقها دون أن تعي بوجوده وانتهاكه لإنسانيتها وتكوينها البيولوجي والنفسي. لنتّحد معاً في كسر حيز التمييز ومنح شريكة الخليقة المساواة والكرامة.