غياب الأخت -زياد خداش – فلسطين

0 967
 العالم الآن –
أربعون عاما تقريبا وأنا بلا أخت. آلاف المرات نهضت من نومي وذهبت إلى عملي دون أن يكون لي أخت. أبكي وحدي في الليل. أكتب القصص الرديئة. وأتشاجر مع أصدقائي، وأكره عملي، وأخون صديقاتي. أرقص في العتمة، وأسمع فيروز. كل ذلك أفعله دون أن يكون لي أخت. ما زلت أحلم بأخت متوسطة الجمال، ذكية وعنيدة، تكبرني بعشر سنوات على الأقل، غامضة، وصامتة، تأتي متأخرة للبيت، فأترك لها الباب مواربا تواطؤا معها، فتتسلل بأقدام حافية إلى غرفتي-غرفتها. وهناك في عمق العتمة والرعب أسمعها تبكي بصمت، فأقترب منها وأضع يدي على يدها ولا أتكلم، فتنحني على رأسي الصغير، تتحسس شعري، فتـتـبلل رموشي بدموعها، وينام بجانبي سؤال: “لماذا تبكي أختي في الليل؟”
لو كان لي أخت لما كنت أنا. بالتأكيد سأكون أخا جميلا، وأقل ثرثرة، وأكثر ميلا للعزلة، وأقرب للرياضيات مني للأدب. لو كان لي أخت ربما لما أخفقت كل علاقاتي العاطفية، ولتدربت جيدا على تحسس دروب الروح ومسالك الجمال الداخلي، لصار عندي للنهد وظيفة أخرى غير إطفاء لهيب الرجل.
أن يكون لي أخت يعني أن افهم سر البكاء في الليل بينما العالم كله نائم إبلها وقاسيا. أن يكون لي أخت يعني أن أتفهم ضرورة ارتكاب خطيئة ما تطهرا من غبار سجون مرعبة تتخذ شكل قرارات
وقوانين، يعني أن أهدأ وأستقر نسبيا على الأقل، وأفكر بهدوء حين تقطع حبيبتي علاقتي معها. يعني أن أطل على العالم الآخر إطلالة دهشة وفرح خبيث. كم هو لذيذ أن أتجسس على حاجات أختي وأغراضها، وأن اختبر عطرها، وأبعثر أوراقها، وأتنفس كتبها، أقف حائرا أمام غموض مواقفها، وارتباك سلوكها. وحين أكبر سأفهم. كم هو جميل ومثير أن تكون لي أخت أرى من خلالها جسر أمان نحو ضفة تبدو بعيدة، ضفة أحتاجها وأريدها!
في طفولتي التي أمضيتها أحلاما، كنت أقول لأمي محتجا: “أريد أختا.” تضحك أمي وتقول: “الله لم يرد بعد.” فأشعر بغضب وغيرة شديدة من أصحابي لأن لكل واحد مهم أخت.
حينما نما شاربي وصرت رجلا بالمعنى البيولوجي، غرقت في حلم يقظة لذيذ جدا. كان أبي يتأخر كثير في العودة إلى البيت، وكنت أعتقد حالما أنه متزوج من امرأة أخرى في مكان آخر من هذه المدينة، وأن لديه منها بنتا واحدة، وأنها، أي البنت، تلح عليه دائما لأن يعرفها على إخوتها، وخاصة على زياد الكبير، الذي يكتب قصصا وتظهر صوره بالجرائد.
جن جنون حلمي ذات صباح، فتابعت حركات أبي خطوة خطوة حتى أتعرف على بيت أختي. كان أبي يتنقل من المدرسة، فالمقهى، ثم إلى بيوت أصدقائه وأقاربه في المدينة. أحيانا كان يمشي في الشوارع ممارسا رياضة المشي. مرة رأيته يدخل بيتا، ففرحت جدا لأني استدللت على بيت أختي. رحت أتجول حول البيت مراقبا النوافذ والشرفة علني ألمح أختي. فجأة خرجت فتاة عشرينية من البيت. تابعت الفتاة في الشارع. كانت رشيقة الخطوات، وكنت أسعد إنسان في العالم. وحين رأيت شابا يبتسم لها وتبتسم له طار صوابي وهجمت عليه شاتما ولاكما، فاستغربت الفتاة وسألتني: “من أنت؟” قلت لها: “أنا أخوك. أخوك من أبيك.” فضحكت بصوت عال، وأشارت للشاب أن هيا نمضي، فهذا الشاب يبدو مريضا.
منذ أربعين عاما وأنا بلا أخت.
ذهبت أختي بعيدا مع شاب غريب. سأشي بها إلى أبي مساء اليوم. في المساء صفعني أبي على وجهي لأني تابعته وتحرشت بابنة صديقه الذي عاده في بيته بسبب مرضه. لكني لم أتوقف عن الحلم المجنون. وما زلت معتقدا حتى الآن، بعد أربعين عاما من الحياة دون أخت، أن أبي سيعترف ذات شيخوخة مهجورة بزواجه من أخرى وبوجود ابنة له في مكان ما.
منذ أربعين عاما تقريبا وأنا بلا أخت. من يقرضني أختا بأخطاء وندم وحنان وقلب كبير ودموع في الليل الطويل؟ من؟ من؟ من يعيرني أختا مجنونة بعودات متأخرة إلى البيت، وبثقة بالنفس، وأقدام حافية، وسجائر ونبيذ مهربين في منحنياتها؟ أختا تكشف لي تناقضاتي، وتفضح شعاراتي. أختا تحميني مني، وتراقب خيباتي، وتعنفني أحيانا، وترتكب هي أجمل الأخطاء، وأبهى الفضائح، وتبكي معي وتقول: “يا حبيبي يا خوي.” أختا ذات جمال شاحب، وملامح متعبة، وتنهدات جاهزة، وحيرة أنثوية باهرة.
في النهار الصاخب أمشي أحيانا في المدينة، أمر عن مئات الفتيات، خائفات ومرحات. أقول في سري: “كان يمكن أن تكون أي واحدة منهن أختي.” كأني على أوشك على الصياح: “أنا منذ أربعين عاما تقريبا بلا أخت.”
حين يقول لي صالح: “أختي خلود،” ويقول مالك: “أختي ليلى،” أقول أنا في سري: “أختي غادة،” فأشعر بالجبال والمدن والعربات والأشجار والمدارس يصيحون فرحين: “غادة، غادة، غادة.” كم أحب هذا الاسم! فيه طراوة نوم طويل. فيه عودة إلى جذور ما. اعتذار خيانة، وقبول الاعتذار.
منذ أربعين عاما وأنا بلا أخت. أخت تطلب من أمي أن تسامحني حين أخطئ. أخت تبوح لي عن حبيبها السري، وأبوح لها عن حبيبتي السرية. أخت بمريول اخضر (*)، ودفتر رسم، ونظرة ذكية، وروح حرة،واستعداد ابدي لتكسير المساطر.
تصور أن يأتيك ملاك صغير راكضا إليك من أقصى العالم ويصيح عليك: “خالي، خالي، خالي.”
أخني. أختي. أختي. لماذا أشعر بالحزن عندما الفظ كلمة أختي؟ لماذا أرى أمامي كل براءة العالم، وكل هزائمه، وكل غضبه أيضا حين اهمس “أختي، أختي”؟ لماذا اشعر بلذة الإثم حين أتصور أختي عائدة من العمل منهكة وغاضبة وضجرة؟
أختي، أختي. آه كم أحبك يا أختي! حتى أرى أبي يعترف بوجود ابنه له في مكان ما، سأظل أتجول في المدينة مغتربا وناحلا ومتعبا وهامسا لنفسي: “أربعون عاما بلا أخت.”
أفكر أحيانا أن أعترض طريق فتاة ما وأقول لها: “يا سيدة، أنت يا صاحبة النظرة الحرة، والابتسامة الحزينة: “كوني أختي. كوني أختي.”
=====
(*): المريول الأخضر: الزي المدرسي لطالبات المرحلتين المتوسطة والثانوية في فلسطين والأردن
رابط مختصر:
مقالات ذات الصلة

اترك رد