شينغن: قصة القرية التي فتحت الحدود بين بلدان أوروبا
العالم الآن – جرى توقيع اتفاق “شينغن” الشهير بشأن حرية الحركة بين دول الاتحاد الأوروبي في قرية صغيرة بجنوب شرقي لوكسمبورغ ليحمل الكثير من الدلالات الرمزية.
في لمح البصر يمر المتنقل عبر البلدان الأصغر في أوروبا دون أن يعي ذلك، ومنها لوكسمبورغ التي تعبرها السيارة في ساعة وقليل من أقصاها إلى أدناها ليجد السائق نفسه تجاوزها إلى بلدان مجاورة سواء فرنسا أو ألمانيا أو بلجيكا دون أن يلحظ الحدود بين بلد وآخر.
وتعتمد سهولة التنقل تلك بخلاف مساحة لوكسمبورغ الصغيرة على معاهدة وُقِعت قبل أكثر من ثلاثين عاما بقرية شينغن بأقصى جنوب شرقي البلاد، وقد غير ذلك الاتفاق الذي حمل اسم القرية طبيعة التنقل عبر أوروبا، ومن حينها لا تزال تطرأ تغيرات عليه.
للوهلة الأولى قد تبدو لوكسمبورغ مركزا باردا للتجارة حيث يدير كبار رجال الأعمال الأوروبيون أموالهم، كما يحتل هذا البلد رقعة صغيرة على الخارطة كثيرا ما يهملها المسافر متجها إلى البلدان الأكبر المتاخمة لها.
لكن هذا البلد الصغير كان من الأعضاء المؤسسين لما يعرف الآن بالاتحاد الأوروبي، والعاصمة لوكسمبورغ سيتي هي إحدى ثلاث عواصم للاتحاد إلى جانب بروكسل وستراسبورغ، والتي تضطلع بدور هام في إدارة شؤون الاتحاد ونظام الحكم في لوكسمبورغ ملكي دستوري بين جمهوريتين عملاقتين هما فرنسا وألمانيا، وقد تكبد ذلك البلد الصغير ثمنا باهظا جراء موقعه خلال حربين عالميتين، ويشهد التاريخ على ذلك.
وتشتهر لوكسمبورغ بصناعة النبيذ وبالمطاعم الفخمة والمتاحف والنصب التذكارية العديدة، وبها قلعة شهيرة مدرجة ضمن قائمة اليونيسكو، ناهيك عن بلدتها القديمة، وكذلك ضريح الجنرال جورج إس باتون جونيور فيما يعشق أهلها المأكولات البحرية وأنواع الجبن والفطائر.
وفي عام 1985 لعبت لوكسمبورغ دورا أساسيا في توقيع اتفاق شينغن كاتفاق أحادي لضمان حرية التنقل بين البلدان الأعضاء.
وأثناء بحثي بتلك البقعة التاريخية نزلت بوادي موزيل الوادع شرقي لوكسمبورغ حيث يتهادى نهره متجها جنوبا ليكون حدا يفصل لوكسمبورغ عن ألمانيا، حيث زراعات الكروم على التلال تتناثر بينها القرى والبلدات.
وقبل أن تنتهي الرحلة وصلت شينغن الصغيرة الواقعة بين الكروم على الضفة الغربية لنهر موزيل، وعدد سكانها يقل عن 520 شخصا وهي ليست بين مصاف المدن أو البلدات المبهرة، ورغم ذلك استضافت اتفاقا غير وجه الترحال عبر أوروبا.
ففيها اجتمع ممثلون عن بلجيكا وفرنسا ولوكسمبورغ، وما كان يعرف يومها بألمانيا الغربية، وهولندا صبيحة الرابع عشر من يونيو/حزيران عام 1985 للتصديق على اتفاق رائد للحدود المفتوحة.
خلفية تاريخية
شهدت الساحة الأوروبية كثيرا من المعاهدات والاتفاقات والتحالفات المضادة خلال النصف الثاني من القرن العشرين، عبر متاهات بيروقراطية لا تنتهي ولكن لا بديل عن الغوص فيها لفهم أبعاد المشهد المؤدي إلى اتفاق شينغن.
بينما كانت الحرب العالمية الثانية تحط أوزارها عام 1944 شكلت بلجيكا ولوكسمبورغ وهولندا اتحادا ثلاثيا عرف بـ”البنيلوكس” بهدف تخطي صعوبات العقود التالية آملين في تعزيز التجارة عبر اتفاق جمركي
وجاءت معاهدة روما عام 1957 لتبني على البنيلوكس وتؤسس المجموعة الاقتصادية الأوروبية لتوسيع الاتحاد الجمركي ليشمل ستة أعضاء مؤسسين هم البنيلوكس زائد ألمانيا الغربية وفرنسا وإيطاليا.
وبمطلع الثمانينيات شملت المجموعة الأوروبية عشرة أعضاء خففت الحدود بينها وإن لم تصل لرفعها كلية، وتطلَّب ضبط الحدود جهدا بشريا واعتبر من العراقيل اللازم التخلص منها.
وانقسمت الدول الأعضاء وطالب نصفها باقتصار حرية الحركة على مواطني الاتحاد الأوروبي وبالتالي استمرار الحدود الداخلية للتمييز بين مواطني الاتحاد والأجانب.
وبحسب مارتينا نيب، المسؤولة عن متحف شينغن الأوروبي فإن فكرة الحدود المفتوحة عام 1985 “كانت شيئا لا يصدق باعتباره أمرا مثاليا وما كان أحد يظن أنه سيصبح يوما واقعا”.
وتُرِك للبلدان الخمسة الراغبة في الحرية الكاملة للبشر والبضائع (وهم ثلاثة البنيلوكس وفرنسا وألمانيا الغربية) الريادة في تأسيس منطقة أصبحت تعرف بمنطقة شينغن.
لماذا شينغن؟
وأثناء رئاسة لوكسمبورغ للمجموعة الاقتصادية الأوروبية عهد للبلد الصغير اختيار مكان توقيع الاتفاق وكانت شينغن هي المكان الوحيد الذي تتاخم فيه فرنسا وألمانيا معا أحد البلدان الأعضاء بالبنيلوكس، ومن ثم وقع عليها الاختيار.
وهكذا كانت شينغن مكان التقاء للبلدان الثلاثة ووقع الممثلون الاتفاق على متن سفينة رحلات هي “إم إس برنسيس ماري-أستريد” رست في المياه في بقعة التقاء الحدود الثلاثية بنهر موزيل.
ولم يجتذب التوقيع على الاتفاق في حينه الكثير من الأنظار ولم يلق كثيرا من الدعم، ففضلا عن الدول الخمس الأعضاء المعارضة بالمجموعة الأوروبية لم يعتقد كثير من المسؤولين من الجانبين أن الاتفاق سيُفعل حقا، حتى أن التوقيع لم يحضره أي رئيس دولة من الدول الخمس الموقعة.
لكن اتفاق شينغن فاق التوقعات التي اعتبرته “تجربة لن تلبث أن تفشل”، بحسب نيب. وما زاد الأمور صعوبة التعقيدات الروتينية التي تطلب التخلص منها لإلغاء الحدود الداخلية بالكامل بين البلدان الخمسة المؤسسة، وهو ما لم يتم الانتهاء منه حتى عام 1995.
منطقة شينغن اليوم
واليوم تضم منطقة شينغن 26 بلدا عضوا، منها 22 بلدا بالاتحاد الأوروبي والأربعة الباقون هم أيسلندا وسويسرا والنرويج وليشتنشتاين.
وكما كان الحال بالأمس، تواجه شينغن انتقادات اليوم، فقد قوضت أزمة المهاجرين مؤخرا وهجمات باريس عام 2015 الاتفاق، ومنحت الرافضين لفكرة الحدود المفتوحة “ذخيرة” كثيرة لضرب الجهود التي أحرزتها شينغن.
ورغم ذلك، مازالت منطقة شينغن تنمو رغم الصعوبات التي تنطوي عليها عملية الانضمام إليها، وتحدد سياسات بعينها من ينضم ومن لا ينضم، ويلزم الموافقة على الانضمام بالإجماع.
وقد تم رفض انضمام بلغاريا ورومانيا مرارا لمخاوف تتعلق بالفساد فيهما وأمن حدودهما بالبلدان خارج الاتحاد، ولم ينضم بلد للاتحاد منذ عام 2011 حين انضمت ليشتنشتاين.
ورغم ذلك تجب فوائد شينغن عيوبها بالنسبة لمعظم الناس، إذ تقول نيب: “يمس الاتفاق يوميا حياة 400 مليون شخص يعيشون في بلدان شينغن”.
وعلى النطاق الضيق يعني ذلك تمكن سكان شينغن ونواحيها من زيارة الأصدقاء والتوجه للعمل في بلد آخر، والاستفادة بتدني الضريبة على الوقود في لوكسمبورغ خاصة الديزل مقارنة بالبلدان المجاورة.
وتمنح شينغن المسافرين حرية الحركة بين كافة بلدانها برا وجوا، مما يختصر الوقت والجهد، والحاصل على تأشيرة شينغن من خارجها يمكنه السفر عبر بلدان المنطقة على مدى 90 يوما.
وماذا عن قرية شينغن؟
شينغن ليست على أي من الطرق الرئيسية ولن يجدها سوى من يقصدها خصيصا، وهي تبعد 35 كيلومترا عن مدينة لوكسمبورغ سيتي، ويجوب الزائر عبر بعض الغابات والزراعات نزولا إلى وادي موزيل، ويتغير المرأى كثيرا عبر التلال الريفية باتجاه بلدة ريميش، ومنها تسير السيارة بمحاذاة النهر بين تلال الكروم والمياه وصولا إلى شينغن والمتحف الأوروبي الذي يعرض قصة المنطقة بوسائل تفاعلية بالداخل وآثار بالخارج.
ولا يفوتك رؤية قبعات حرس الحدود من البلدان المختلفة الأعضاء والتي تم التخلي عنها كرمز وطني في سبيل إفساح المجال للاتفاق، وأمام المتحف أجزاء من سور برلين تذكر بأن الكتل الاسمنتية التي ارتفعت يوما بأحد البلدان المؤسسة الكبرى لم تعد موجودة.
وأمام المتحف أيضا ألواح معدنية ثلاثة تعلوها نجوم تذكر بالأعضاء المؤسسين، وأخيرا هناك أعمدة الأمم التي تعرض مشاهد رئيسية من كل بلد من بلدان شينغن.
وبعد معرفة التاريخ الدولي لتلك القرية الهادئة فبإمكان الزائر التمتع برحلة نهرية أو التجول بالدراجة بين التلال المحيطة أو تذوق النبيذ الأبيض الرقراق قبل أن يترك القرية لتخلد إلى راحتها بين سجلات التاريخ.”BBC “