الجارة روسيا والاحتفال معاً في العام الجديد – د. غالب سعد – الأردن
العالم الآن – بمناسبة عيد الميلاد المجيد ورأس السنة الميلادية، إنتابتني ذكريات ملتبسة بين الدين والسياسة، فقد تذكرت آخر ثماني سنوات من وظيفتي في دمشق ( 2007- 2014)، قَضَيت نصفها في تَرَقُب المحنة، والنصف الآخر في إنتظار نهايتها، فالمحنة السورية كانت متوقعة منذ إغتيال الرئيس الحريري والحرب الإسرائيلية على لبنان (2005-2006)، وكانت سوريا حاضرة قبل تلك الأحداث، على مدى أربع سنوات مكثتها في بروكسل، تابَعت فيها نقاشات الأوروبيين عن دخول تركيا للإتحاد ألأوروبي، ومخاوفهم من أن تغرق أوروبا المسيحية، بملايين المسلمين، وأن تصبح جاراً مباشراً ” للإرهاب والتخلف ” في العالم العربي الإسلامي، عبرالحدود الشمالية لسوريا، ولكن الفكرة تبخرت ولم تنضم تركيا للإتحاد ولن تنضم، ولكن المفارقة هي أن روسيا، التي لا تَقِل مسيحية عن أوروبا، إختارت أن تتواجد اليوم بجنودها ونفوذها في قلب دمشق وعلى إمتداد الأراضي السورية، كلاعب رئيسي وربما منفرد على الساحة، وكجارمباشر لكل من تركيا والعراق ولبنان وفلسطين والأردن، وكجارعلى بُعد خطوات لمنطقة الخليج براً، ولمصر وشمال إفريقيا عبر البحر المتوسط، هذه الأحداث التي خلقت واقعاً جيوسياسياً جديداً في المنطقة، يَصعب إعتبارها وضعاً مؤقتاً أو شأناً سورياً خالصاً ، فهي على الأرجح ستكون من حيث الزمن ممتدة ومن حيث الآثار متصلةً بكثير من قضايا المنطقة، وهو ما يتطلب التأقلم مع الجارة الجديدة، والتفكير ملياً بالفرص والتحديات والمتطلبات على مستوى الإقليم.
لم تشهد المنطقة العربية هذا المستوى من الحضور الروسي، لا في العصر الذهبي للأحزاب الشيوعية، ولا في حقبة إعتماد الكثير من الدول العربية على التسليح والتدريب الروسي، وكان هذا الحضور قد تقلص أثناء فترة التحول عن الشيوعية، واستمر متواضعاً أثناء حرب الخليج وأحداث الربيع العربي، ولم يظهر بقوة الاّ في الأحداث السورية، التي يمكن إعتبارها فرصة لعودة روسيا الى المنطقة، والى ملعب النظام العالمي، وتفترض هذه العودة تجَدد الحرب الباردة، ولكن هذه المرة لن تكن بين معسكري الغرب والشرق، بل في إطار البيئة الغربية المسيحية الليبرالية الواحدة، تحركها المصالح وتحسمها موازين القوى، ويبدو للوهلة الأولى التفوق الأمريكي الأوروبي واضحاً على حساب روسيا في كل المجالات، ولكن بشيء من التركيز، يتضح أن جعبة موسكو لا تخلومن الأوراق الرابحة التي يمكن أن تقلب المشهد رأساً على عقب، فقد نجحت إستراتيجيتها في سوريا كما كانت مرسومة منذ بداية الأحداث، وتمكنت من المحافظة على النظام وتحييد كل القوى المحلية المعارضة والقوى الخارجية الطامعة، وأخيراً تجمعت في يد الرئيس الروسي ونظامه المستقر كل خيوط المسألة السورية، وحتى في ساحات النزاع الأخرى، تجنبت موسكو التورط في صراعات مفتوحة، مالم تكن واثقة من الحسم لصالحها او الخروج بحصة مجزية، مقابل ذلك، يبدو التحالف الأمريكي الأوروبي مفككاً تنخره التناقضات، يغلب عليه التردد والتناقض، وبالنتيجة يبدو أشبه بالمهزوم سياسياً، رغم الإنتصارات العسكرية على الأرض، كما جرى في العراق وليبيا واليمن على سبيل المثال، وفي ساحتين محسوبتين تقليدياً على المعسكر الغربي، استطاعت روسيا تحقيق التفاهم والتعاون مع تركيا، رغم حساسية موقفها من الوضع السوري، وعضويتها الفاعلة في حلف الناتو، كما استطاعت التفاهم مع إسرائيل، الحليف الأقرب لأمريكا والغرب، ويبدو التنسيق على أشده بشأن المسألة السورية والنشاط الشيعي والإيراني، ولم يصمد أمام الإستراتيجيه الروسية في سوريا أي مقاومة تذكر، ويضاف للرصيد الروسي، التعاطف التقليدي في الشارع العربي العريض مقابل العداء الشعبي المتصاعد للسياسات الأمريكية، هناك من يذهب في تفسير ما يجري في المنطقة، على أنه إعادة لتوزيع الأدوار وتقاسم النفوذ وتعديل الحدود التي جرى ترسيمها في إتفاقية سايكس بيكو وما بعد الحرب العالمية الثانية.
لن يتسع المجال لعرض كل أوراق القوة الروسية في المنطقة، ولا لنقاط ضعفها، وسنكتفي بالإشارة الى أقوى تلك الأوراق على الإطلاق، والمتمثلة في فشل الولايات المتحدة الأمريكية في التعامل مع قضايا المنطقة بموضوعية، والإعتقاد بتخريبها المتعمد لعملية السلام في الشرق الأوسط، ودعمها لسياسات الإحتلال العدوانية في القدس والمستوطنات، ومحاولاتها فرض حقائق سياسية وصفقات غير متوازنة، تجاوزمتطلبات ألسلام والإستقرار والتنمية، سياسات دمرت وستدمر ما بقي للولايات المتحدة من مصداقية لدى أصدقائها، وستضر بمصالحها وبمصالح أصدقائها، ولن يخدمها كثيراً ما تقدمه من مساعدات مادية هنا وهناك، فطموحات المنطقة تحتاج لأكثر من ذلك بكثير، وأهم ما تحتاجه، الحكمة والإعتدال والسلوك المسؤول من الجميع، حتى لا تجد المنطقة نفسها مضطرة للبحث عن بدائل أخرى غيرمحددة المعالم، يمثلها الحضور الروسي القوي في المنطقة، الذي قد يتحول الى تحالف يضم كل الغاضبين من السياسات الأمريكية، وربما هناك خيارات أخرى غير محمودة، فيها من الفوضى والعنف المكلف للجميع، ولا أظن أن هذه الحقائق والخيارات، غائبة عن قيادات المنطقة والمهتمين بشؤونها، حتى الأصدقاء المفترضين للولايات المتحدة الأمريكية، وتلك الأنظمة التي راهنت طويلاً على دعمها، أصبحت تشعر بالإحباط من إحتمال التخلي الأمريكي عنها أو ابتزازها، بينما يلاحظ الجميع صلابة ونجاعة الدفاع الروسي عن حلفائه في دمشق.
لقد توجهت القيادة الأردنية مِراراً، بصوت الحكمة، نيابة عن المنطقة كلها الى الإدارة الأمريكية، تنبهها من خطورة السياسات المتهورة، والتلكؤ في حل القضية الفلسطينية على أسس من العدالة وقرارات الشرعية الدولية، ولم تجد النداءات الأردنية، حتى الآن ما تستحقة من التفاعل، ومع ذلك يواصل الأردن تحمل مسؤولياته والسير في طريقه الثابت والمتوازن، متسلحاً بمخزونه من الإعتدال والتجربة، كي لا ينزلق في التمحور والإستقطاب، وليبقى محافظاً على الحد الضروري من التواصل مع الجميع، ولولا هذه السياسة الحصيفة لكانت التكاليف على الأردن اكبر بكثير من اغلاق الحدود لسنوات وتحمل أعباء لجوء الأشقاء، وضغوط أخرى من كل نوع، فضلاً عن بعض اللوم والإنتقاد ممن لم يدركوا مغزى الموقف الأردني، في لعبة غاية في الدقة والحساسية، وفي المحصلة، فقد أثبتت الأيام سلامة هذا الموقف كصمام أمان في وجه الشطط في المطالب والتجاوزات في الممارسات، وعمل كل ما يمكن لطي صفحة الحروب بالأصالة او بالوكالة ، ليتفرغ الجيران في الشرق الأوسط لالتقاط الفرص الواعدة، والإحتفال معا بتوديع العام المنتهي وإستقبال العام القادم بكل تفاؤل وأمل أن نكون وجيراننا بخير وسلام.