كلنا في الشر شرق – د.عصمت حوسو – الأردن
العالم الآن – لم يحصل في التاريخ الإنساني أن اجتمع الناس وعقدوا فيما بينهم “عقدًا اجتماعيًا” يفصّلون به شكل الدولة وحقوقهم سوى في الكتب وفي أقوال الفلاسفة، وكما هو العقد الاجتماعي يعتبر إطار تفسيري فقط، تشبهه في ذلك “الطبيعة البشرية”، فلا يمكن أن يكون هناك إجماعًا عليها، أهي تميل إلى الخير أكثر أم إلى الشرّ، وكيف سيصمد الخير بها -إن وُجد- في ظل هذا ” التوحّش البشري ” الذي نحياه ؟؟!! سؤال مشروع جدًا الآن بمحض الإجابة أعزّائي القرّاء..
نتساءل هنا كذلك، هل الجهل والتخلّف والتطرّف والعنصرية والطائفية وغيرها من الظواهر البغيضة هي المسؤولة عما نحن فيه من شرور وانحطاط وتدهور في طبيعة الإنسان “الشرقي” الخيّرة ؟؟!! ويتبع هذا التساؤل أسئلة أخرى؛ هل هناك معجزة – بالرغم من انتهاء عصر المعجزات- تُنقذ الشرق مما هو فيه من هذه الإكراهات الغريبة جدًا عنه ؟؟!! هل سيصمد البشر على هذا الكوكب الغرقان بالشرور الإنسانية؟! الكون كله من الأساس مبنيًا على الثنائيات والمتضادات، فهذا هو ديدنه وسبب استمراره، ولكن لم يعد الخير مساوٍ للشرّ، فالثاني تعدّى الأول بمراحل، وطغى عليه إلى الحدّ الذي أحدث خللاً في توازن الطبيعة للأسف الشديد، لذلك سادت الحروب وزاد الفسوق والعقوق والظلم الذي أذّن بخراب هذا العمران من زمان.
من المعلوم أن هناك تفاعلاً متبادلاً بين البيولوجيا والبيئة؛ فالإنسان فاعل ومنفعل في المجتمع، فإن كان خراب البيئة بكل مكوناتها المعنوية والمادية قد غلّب جانب الشرّ على الخير في الإنسان، فهذا أمر خطير جدًا؛ لأن ذلك يعني أن البيولوجيا ستتغيّر أيضًا بتأصيل الشرّ “بالجينات” ونقله من السلف إلى الخلف، وهذا ما نخشاه على جيناتنا الشرقية الجميلة، تلك التي كنا نباهي بها الأمم، إلى أن فاقتنا وعايرتنا بتخلّفنا وسخرت من جهلنا باقي الهمم.
ونعود للتساؤل هنا مرة أخرى، هل من المعقول أن كلمة الشرّ في ( الشرّ قُ ) قد طغت عليه؟؟ ربما كثيرٌ منا يجيب بنعم في الوقت الحالي، كيف لا وقد بتنا في زمن يوسم بانعدام ( الحسّ الأخلاقي) وفوضى الأخلاق العقيمة، في كلّ القطاعات وجميع مناحي الحياة، أضف إلى ذلك تراجع القيم الاجتماعية وتقهقرها، وإن توقفنا في لحظة تأمّل وأمعنّا النظر في محيطنا الصغير والكبير على حدّ سواء، حتمًا سيجد كلٌ منا ذلك حوله، في مشهد واحد على الأقل، وربما أكثر.
وإن اعتمدنا نظرية (نعوم تشومسكي) حول الطبيعة البشرية، الذي اعتبر أن الإنسان يتمتع بقدرة فكرية فريدة قادرة على التفكير والتعقّل والتعبير والتواصل ولكنها مشروطة بوجود ( الحريّة )، فالأخيرة مرتبطة بتكوين الإنسان الوراثي تمامًا مثل نظامه البصري والعصبي وباقي النظم البيولوجية الأخرى. فهل يا ترى وفقًا لتشومسكي أن كبت الحريات وسلبها من داخل الشرق وخارجه هو ما أوصلنا لما نحن فيه من شرور ، فأسقطنا حرف (القاف) من الشرق ووقفنا عند حدّ (الشدّة) على حرف الرّاء، واختزلنا جميع القدرات بالاكتفاء بلعب الشدّة كذلك؟؟!!
صحيحٌ أن الأرضية المشتركة للقوانين الأخلاقية هي واحدة في جميع الثقافات مهما اختلفت الخلفيات، فمفهوم الرذيلة والفضيلة واحد عند البشر، وتقاسُم ذلك هو ما سهّل التواصل بين جميع الثقافات في عصر وسائط السوشيال ميديا الحديثة، ولكننا هنا لسنا بصدد الحديث عن الطبيعة البشرية والإنسان بشكل عام، وإنما اكتفينا في الحديث عن الشرق والبشر الشرقيين، فهذا ما يعنينا الآن، للتحدث عن التحديات التي تؤرّق الشرق على وجه الخصوص، ولنكتشف معًا ما الذي أسقط حرف القاف من الشرق، وأمسينا في الشرّ شرّ قُ بعد أن كنا في الهمّ شرقُ، واعتذر بشدة لأحمد شوقي الذي قال هذا البيت على هذا التعدّي غير المقصود، فواقع الشرور الكثيرة جدًا في الشرق من الحسد والحقد والغيرة والبغض والكره وإيذاء الآخرين وتمنّي زوال النعمة وغير ذلك من الظواهر الكريهة، هو ما قادنا اليوم إلى تبديل ” الهمّ إلى الشرّ في الشرق ” في بيت أمير الشعراء.
لا بدّ لنا الآن من الاعتراف أن العقل الشرقي غير متميّز حاليًا البتّة عدا عن تخمته بالشرور، لا مفرّ أمامنا سوى الإقرار بذلك، ويعود السبب في هذا التراجع؛ هو اعتماد الشرق على (نستالجيا) تميّزه قبل “ألف عام ونيف” والاكتفاء بذلك العهد فقط، ولسخرية القدر أنه ما زال إلى الآن يتغنّى بأمجاده وأخلاقه وقيمه (السابقة) دون أدنى جهد لاستعادتها وإحيائها أو حتى الحفاظ عليها، وببساطة شديدة هو لا يريد ذلك، لأن هذا الوضع أسهل عليه بكثير لتبرير حالة ( اللافعل ) أو الفعل المشين الشرّير الذي هو عليه اليوم.
وحتى نخرج من دائرة توصيف المشكلة وتشخيصها، على الرغم أن ذلك هو نصف الحل، اعتقد أن الخلاص من الشرور الكثيرة في الشرق يكمن في النقش في الحجرِ، وذلك من خلال التعليم بالصغرِ مناهج تشمل مادة الأخلاق، وكذلك الأمر في الجامعات، انطلاقًا من مقولة ” من شبّ على شيء شاب عليه”، هكذا فقط نغلّب طبيعة الخير الشرقية، أو ما بقي منها في أقلّ تقدير، وسط الشرور العالمية والمحلية، لعلّ زرعنا لبذور الخير سيحصدها أبناؤنا وأحفادنا يوماً ما..
لا يمكن في أي حال من الأحوال أن ينتهي حديثنا عن الشرق وقيمه الأصيلة، دومًا لنا عن الأخلاق حديثٌ آخر وبقية…دمتم….