لايك بلايك: البادي أظلم أو ربما أرحم. -د.عصمت حوسو-الأردن
العالم الآن -لم يعد مستهجناً أبداً أن (يزعل ) الناس من بعضهم البعض إذا لم يتفاعل الآخر معهم على وسائل التواصل الاجتماعي بشكل عام وعلى الفيسبوك بشكل خاص جداً. منذ بداية ظهوره لم يكن منتشراً كالوقت الحاضر بين فئات الأعمار جميعها وعلى مدى واسع مثل ما هو الوضع حالياً، لذلك إذا كان أحد الأشخاص (وغالباً كانوا فئة الأطفال والشباب) يزعل من الآخرين لأنه لم يقبل صداقته مثلاً، كنا حينها ننظر اليه/ ها باستخفاف تام نظراً لأن تلك الوسائل بنظرنا في ذلك الوقت كانت وسائل لهو وتسلية أكثر منها وسائل تواصل حقيقية. لم يكن في ذهننا حينها أننا سنصل الى مرحلة يغدو معظم تواصلنا إن لم يكن كله من خلال تلك الوسائل وغالباً (الفيس) على رأي الأغلبية لسهولة التعبير..
اعتقد الآن يجب أن نعيد قراءة الفيس بوك جوهرياً ونقرّ تماماً أن (الفيس) قد حلّ محلّ وسائل التواصل المباشرة جميعها، فعطّل ذلك الإحلال الافتراضي (رضينا أم غضبنا) تواصلنا الحقيقي الواقعي الحواسي: البصري والسمعي والحسي والجسدي على كل المستويات وعلى أرض الواقع السريع؛؛ واقع (الشورتكاتس)..
لذلك لم يعد مستهجناً ولا غريباً ولا ساذجاً حالة (الزعل والعتب ) من قبل الأصدقاء أو الأقارب حال عدم تفاعلهم على الفيسبوك عندما يقوم أي منا بتنزيل أي منشور أو بوست أو حتى صورة شخصية، لأن (اللايك ) حلّت محل كلمة مرحبا (هاي)، و(التعليق ) حلّ محل (التهنئة أو التعزية أو المشاركة الاجتماعية الحقيقية بأطيافها المختلفة)، أما (مشاركة) المنشور فتعني (الاحترام وإلاعجاب والتقدير) لمن قام بنشره، كما ان (قبول الصداقة أو رفضها) يعني (حسن الاستقبال أو عدم الاستقبال) في المنزل، والعكس تماماً يمثل ذات الحال. بمعنى؛ عدم (وضع اللايك ) يشابه تماماً( عدم البوح بكلمة مرحبا) إذا رأينا بعضنا في مكان ما، و(عدم التعليق ) يشابه تماماً وجودنا بالمكان نفسه وعدم تبادل أطراف الحديث أو عدم تبادل أخبارنا الشخصية والعائلية أي (الإهمال)، أما (عدم المشاركة ) لشئ يستحق أهمية المشاركة فهو محض ( كيد ورغبة بعدم إظهار التقدير) وتأخذ أحياناً أخرى منحى الغيرة الساذجة المكشوفة حين يرى الشخص (البوست ) ولا يشاركه أو حتى يتفاعل معه كحدّ أدنى، وقد يقوم بحفظه على جهازه وبعد فترة يفرج عما قام أو قامت بسرقته وكأنها كتابته الخاصة. أما (البلوك) فيعني (القطيعة التامة للعلاقة) تماماً كما كان الخصام وعدم تبادل الزيارات والمقاطعة بين الأقارب والأصدقاء في حالة التواصل المباشر.
ومن ناحية أخرى، يشير عدم التفاعل أيضاً الى (المجاكرة ) للآخر، كأن يقوم أحد الأقارب أو الأصدقاء باحتكار المشاركة لشخص (ما) نكاية بأحد الأطراف، لتوصيل شعور الانزعاج أو الغيرة أو الكره أو الحقد أو البغض للآخر المقصود، فتغيب المشاركة أو التفاعل (باللايك أو الكومنت أو الشير)، وبالرغم من أهمية التفاعل الفيسبوكي هنا الاّ أنه تكميلياً لا ضرورياً. وعند غضب الشخص من الآخر أو شعر بدونية اتجاهه أو شعر بالغيرة الشديدة يمر مرور الكرام حتى لو أعجبه ما يكتبه، حتى لو كان المنشور عن قضية هامة استقطبت الرأي العام، على الرغم أنها قد تمسه هو أو هي أو أحد أفراد العائلة الصغيرة أو المجتمع الكبير.
ومن الاستخدامات الأخرى للفيسبوك اعتباره برج مراقبة ومتابعة لسيكولوجية ( الآخر المهمّ ) – لو لم يكن مهماً لا تتم متابعته- ومتابعة أخباره الشخصية والعامة، أو مكان تواجده، والتصيّد والشماتة لأحداث حياته بعيداً عن الفخر أو المواساة أو حتى محاولة الاطمئنان.
أما الاستخدامات الحالية المنتشرة جداً هي حالة “التبجّح الفيسبوكي” من خلال (تلطيش الحكي) أو (فشّ الخُلُق) أو (التهديد المباشر والمبطّن) للحبيب أو الزوج أو أحد الأقارب أو الأصدقاء وحتى للعدوّ، من خلال البوستات المهينة التي يطالب الآخر بقرائتها أو الالتزام بها أو إقناعه بفحواها بغضّ النظر عن صدقها من كذبها، دون أن يكلف نفسه عناء تطبيق محتواها على نفسه أولاً قبل نشرها ودون فرز الغثّ من السمين أو الهجين من الثمين منها أو على الأقل تمحيصها. فبدلاً من مواجهة الطرف (المستهدف) بصراحة وبشكل مباشر لا افتراضي بما يجول في نفسه يتم اللجوء الى (الردح) الفيسبوكي، خصوصاً عند غياب الحجة العقلية، والدليل المنطقي الواضح والصارخ، وهزالة القدرة على المواجهة والحوار المباشر الراقي الفعّال..
لا مناص هنا أمام الطرف المستهدف من الردّ الصاروخي على الهراء والكذب الفيسبوكي ردّا يليق بمستوى الظلم والتعدّي والقسوة ذاتها في الواقع الفعلي والافتراضي على حد سواء، خصوصاً عندما يتفاقم الصمّ والبكم والعمى وتنقطع جميع السبل أمام وسائل التواصل المباشر (المحترمة). تنتهي هنا مرحلة “التسامي الفيسبوكي” وتنتقل من الإشارة إلى العبارة، ومن التلميح إلى التصريح، ومن الأعين الصامتة إلى الألسن الناطقة…
الفيسبوك لا يفضح سيكولوجية الشخص نفسه فقط وإنما يفضح سيكولوجيته اتجاه الآخر صديقاً كان أو قريباً أو غريباً وحتى إن كان عدواً .. لذلك يجب أن ننتقي ما ننشره ونعنيه تماماً، ونثق بما نقول من أفكار وآراء ومعتقدات ونتأكد مما ندلي به من معلومات وأحداث، الأجدر أن تكون حقيقية لا افتراضية خيالية، لأن الفيسبوك لم يعد أداة لهو أو لغو أو تنفيس كسابق عهده؛ فهو أداة جدية للتواصل والتعبير كما أضحى أداة جدية للتغيير والتأثير، وكلماتك تُسأل عنها اجتماعياً وقانونياً . إن المنشور أو البوست أو الصورة طالما نزلت للعوام لم تعد ملك الشخص، ولم يعد هناك مجالاً للتراجع، سواء بفكرة أو رأي أو حتى صورة أو حياة شخصية، لذلك إذا سببت المنشورات الفيسبوكية صدى واستقطبت الرأي العام أو التقطها أحد المهتمين أو المعنيين بغض النظر عن (النية) لا يحق له او لها المطالبة بوقف النشر أو الاستخدام أو المشاركة.
الموضوعية والحياد العاطفي هو المطلوب عند تقييم منشورات الآخر وقرار التفاعل الفيسبوكي الإيجابي المحترم، (صفاء النية) هي المطلوبة عند التفاعل مع الأهل والأصدقاء. التواصل الاجتماعي الافتراضي يجب ان يشمل جميع ما يشمله التواصل الاجتماعي المباشر وغير المباشر بما أنه حلّ محله الى حدّ كبير؛؛ استعادة الضمير الموضوعي والأخلاقي الغائب فيسبوكياً غدت ضرورة ملحّة.. الآن الفيسبوك أصبح جدّه جدّ وهزله جدّ: نعم هو بهذه الأهمية…
وبناءً على جميع ما سبق لست اعتقد بل أجزم أن معادلة التفاعل الفيسبوكي الآن مفادها :-
” لايك بلايك والبادي أظلم، أو ربما أرحم”….
دة. عصمت حوسو
رئيسة مركز الجندر(النوع الاجتماعي) للاستشارات الاجتماعية والنسوية