ثالوث الإلحاد والعمالة والمثلية في ليبيا- عبدالوهاب العالم ليبيا
العالم الآن-(الإلحاد ، المثلية، العمالة)… اللعنات الثلاثة التي تهدد المجتمع الليبي، كما تُقر تصريحات الجهات الأمنية ! وهي تصريحات كفيلة بإشعال الفيسبوك وحشد الناس ضد هؤلاء المتهمين الذين تضاعف عددهم منذ سنة 2011 بصورة مقلقة .
وحتى قبل 2011 والليبيون يخوضون حربا ضد هذا الثالوث النجس، حرب طويلة تنتهي معاركها القاسية بالنتيجة ذاتها: انهيار المجتمع الليبي نفسه !
إذ لم تنتج هذه الحرب أمرا إيجابيا واحدا، فإن كانت وسائل مكافحة هذه الآفات فعالة، لما توالت أخبار القبض على الملحدين والمثليين والعملاء طيلة هذه السنوات، وما عاب مجتمعنا المحافظ وجود هؤلاء من الأصل… فلماذا يتواجد هؤلاء في مجتمعنا بهذه الكثرة؟
أقصد، منذ أبوليوس مرورا بعبد السلام الأسمر وصولا لعشرات السجناء في عهدي الملكية والجماهيرية ونحن نطارد أشخاصا بمواصفات معينة، حتى بعد مماتهم… فالأمر قديم ومعجون بجيناتنا الثقافية إلى حد مرعب !
بدأت هذه المطاردة منذ منتصف القرن الثاني الميلادي حين جرت محاكمة أبوليوس في صبراته، فهذا المثقف الذي عاش في (أويا) –طرابلس القديمة- وتزوج إحدى سيداتها و صار أبرز أعلام البلاد، يفاجئ ذات يوم باتهامه بالكفر والمثلية وتخريب عقول الشباب !
ونعرف اليوم أن الأمر كان مجرد مكيدة، لكنها نجحت على كل حال، وحتى بعد تبرئة مثقفنا اللامع… ضاق عليه الحال في بلدنا، ورحل إلى قرطاجة ليصبح الكاهن الأعظم وينعم بالتقدير، بعيدا عن البلد الذي أحبه وصار من أهله…
إن محنة أبوليوس في ليبيا، تحولت إلى نموذج متكرر (Modello) سيرافق ثقافتنا حتى هذه اللحظة التي تقرأ فيها المقالة !
بيد أن عنصر المحاكمة -الذي يظهر تحضر الليبيين على الأقل في هذه الحرب – سيلغى من المعادلة منذ القرن الثاني الميلادي وحتى الساعة،إذ حُرم العلامة الكبير عبدالسلام الاسمر من المواجهة النزيهة، فاتهم بالكفر وتخريب عقول الشباب، حتى هرب إلى تونس… كسابقه أبوليوس، وفيها ازدهرت تعاليمه وآثاره لتسمى بعدها الطريقة السلامية، بيد أنه رجع لزليتن وأكمل مسيرته الثقافية العبقرية إلى أن هاج الناس بعد مماته في حملة تكفير مازالت ناشطة اليوم بعد أكثر من 600 قرن على وفاته…
ويمكنك ملاحظة ذلك اليوم، في الحملة الجنونية على المجتمع المدني، إذ يتهم الناشطون بالكفر والعمالة… وهو تقليد قديم، إذا علمنا أنه امتداد لما حدث سنة 1881 عندما طاردت السلطات العثمانية مجموعة ناشطين في طرابلس وبنغازي، بتهمة التآمر والكفر، فحكم على أحمد النائب وهو أحد أبرز أعضاء المجموعة بالنفي إلى استنبول وفيها كتب المرجع التاريخي الأهم: المنهل العذب في تاريخ طرابلس الغرب… أما زميله الشيخ ظافر المدني، فسجن طويلا وهو أحد اشهر فقهاء البلاد في ذلك الوقت … وكان كلاهما شابا متحمسا، يحضران في (القرائخانة) -وهي المكتبة -مع شبان مثقفين لنقاش طرق الإصلاح في البلاد… حتى انقلبت حياتهم مرة واحدة وخسرت ليبيا أولى مؤسسات المجتمع المدني، بسبب التهم ذاتها التي مازالت تلاحق الشباب اليوم .
ويعجب المرء لصمود هذه الادعاءات رغم تغير الأحوال، إذ سجلت في العهد الملكي، حملة إغلاق الجمعيات الأهلية وسجن الناشطين بتهمة التآمر وبث الفوضى في المجتمع الليبي، لتُحل جمعيات ساهمت في استقلال البلاد مثل جمعية عمر المختار ويسجن الشباب القوميون، فنخسر للمرة الألف فرصة لتنمية التعدد الحزبي والاختلاف الثقافي، تمهيدا لعهد الجماهيرية الذي شهد منذ بداياته حملات إلغاء لمؤسسات المجتمع المدني والناشطين بتهم الإلحاد والعمالة وبث الفوضى !
إنه نمط اجتماعي متكرر… لكن التواء الظاهرة في سياقات متعددة يمنعنا من رؤيتها كنمط اجتماعي ليبي أصيل ! مثلا، كانت تهمة أبوليوس الرئيسية هي ممارسة السحر، وكذلك الشباب المثقفون في العهد العثماني… والسحر هنا يعادل الكفر… بل هو طريقة أخرى لرمي الناس بالكفر، إذ أنك تشرك أو تكفر بممارسة السحر، وهي تهمة سخيفة إذا علمنا أن أبوليوس فيلسوف لامع وأديب مرموق… كما أن النائب والمدني شيخان معروفان في البلاد… لكن هذه التهمة كفيلة بإخراجك عن “الملة” في مجتمع يهتم بمظاهر التدين … وإذا نزعت عنك صف الإيمان، يجب أن تجرد من التقدير الاجتماعي… وهنا تأتي تهمة المثلية، والأمر هنا شديد التعقيد، فنحن لا نهتم بالجنس أكثر من هوسنا بالصور الذهنية المحيطة به… أي بالسلوك، فالمثلي في نظرنا : فاقد للرجولة… وهو ما يجعله خطر في مجتمع يعتمد على إظهار القوة… خصوصا في أوقات الأزمات ! وهو أمر مضحك للغاية، فالتاريخ يثبت العكس تماما بشخصيات قوية… بل حتى طواغيت، كانوا مثليين! وإذا كنت مثليا أو أشتبه في توجهك الجنسي لأنك لا تلتزم بإظهار القوة في سلوكك اليومي… فأنت تحدث أمرا غير طبيعي في المجتمع، وبالتالي تبث فيه الفوضى، التي تؤثر في الشباب خصوصا، فتخرب عقولهم، هنا، تدخل السلطة، التي تسعى لديمومة حكمها، بمطاردة هؤلاء!
هذا الارتباط الأزلي بين المثلية والإلحاد والعمالة… يجعل من أي حراك مدني أو نشاط فني، خطر حقيقي في مجتمع يعاني الحرب الأهلية كمجتمعنا… ويحرمنا من هؤلاء الأعلام – وهم فلتات نادرة في أي مجتمع- فلا نستطيع رؤية الأزمة الليبية من منظور الفنان أو الأديب أو الفيلسوف أو الفقيه… إن هذه المطاردة المخزية حرمت مجتمعنا من النيهوم والكوني والعوكلي وبوشناف والطويبي والبشتي… وغيرهم كثر، ليكونوا محركين فاعلين في مجتمعنا، وفتح أبعاد أخرى أمام الناس ليرو أنفسهم من خلال العالم… ومن خلال الثقافة ذاتها !
وكما حُرمت الأجيال السابقة من هؤلاء…نحرم اليوم من جابر زين وصلاح انقاب ومعز بانون وتوفيق بن سعود وسليمان قشوط ومحمد اليعقوبي…ومالا حصر له من وجوه مشرقة ظلت تقودنا بمشقة وسط الظلام…
إنني أتحدث هنا عن ظاهرة اجتماعية معقدة، إذا عالجناها بجديةن سنرى فرقا ملحوظا في سير مجتمعنا.. إذ أن تشجيعها من قبلنا لم يثمر سوى الخسارة على الأمد البعيد، والفوز لمجتمعات أخرى حضنت هؤلاء الفارين من بطشنا…
كما أنني أتحدث هنا، منطلقا من تجربتي الشخصية داخل الحبس، فكاتب هذه الكلمات، سجن وعذب بدعوى الإلحاد والعمالة… وكذلك ضربت لأنني “أبدو شاذا” بحسب رأي الملشياوي الشاب !
ما أريد قوله… إنها ليست مجرد صدف غريبة… إن الغريب هو عدم إدانتنا لهذه المطاردة اللعينة التي أفسدت حياتنا جميعا .
الذعر من كل ما هو مخالف، هو ما يلقي بنا إلى قعر الهاوية.
الإلحاد، المثلية، العمالة، العهر، كلها تهم مجهزة لسحق روح أي تجديد يمكن أن ينتشل هذا المجتمع من الهوة التي يستلقي بها بكسل وبرضا وغرور منذ زمن بات كالأزل.
ما آسف له من عمق وجداني المجروح هو كون من يرث هذه الفوبيا التاريخية هو ذاته من يحمل قلما يشوه به ما هو آت.
ستنتحب حروف النيهوم طويلا، كما ستنتحب حروف كل الكتاب الحقيقيين الذين لم يرثوا سوى اللعنات والحسرات؛ بسبب تهم ساذجة كهذه.
مقال ينكأ الجراح بحق.