الجريمة والعالم الأزرق – د.عصمت حوسو – الأردن
العالم الآن – يتساءل كثيرون في “العالم الأزرق”، وهذا حقٌ لهم، ما هي سيكولوجية المجرم؟! وهل الإجرام جزء من الطبيعة البشرية أم بفعل الجينات الوراثية؟! وهل للظروف الاجتماعية المحيطة القاهرة علاقة بذلك؟! أم أنها سمة فردية وربما تنمّ عن مرض عقلي؟! من يغذّي الإجرام ومن هم صنّاع الجريمة؟! هل الجريمة هي القتل فقط؟! هل هناك من يجمّل الجريمة؟! لماذا تكون محاربة الجريمة على وسائل التواصل الاجتماعي فقط؟! ولماذا يتم تسليط الضوء على جرائم محددة في أوقات حساسة رغم تشابهها وتكرارها منذ زمن طويل، هل يرتبط ذلك بإشغال الرأي العام وصرف انتباهه عن أمور أخطر؟!
ويتساءل آخرون، هل كيل الحكومة بمكيالين وما يعانيه الإعلام “الأصفر” من ترويج الإشاعات المُغرضة وما يعانيه المجتمع من ازدواجية المعايير دور في إنعاش الجريمة وقبول المجتمع لها أحيانًا وتجميلها؟!
مثل تلك الأسئلة وعلى منوالها الغزير تدور في خلد الكثير، ومن يستطيع الإجابة عليها اليوم ويتحمل مسؤولية إهمال الإجابة وعواقب ذلك (ثلاث) جهات فقط، فالحياد والسكوت جريمة، تبدأ الجهة الأولى من “مؤسسات الدولة” الرسمية بطرح تفاصيل الحادثة – أي حادثة مهما كان نوعها – بشفافية مطلقة وبسرعة توازي سرعة العالم الأزرق، مرورًا بأهل “الاختصاص العلمي” من خلال تحليلها من الزوايا النفسية والاجتماعية، للوقوف على أسبابها لعلاجها والوقاية منها فيما بعد منعًا لتكرارها، وأخيرًا تأتي مسؤولية “أهل القانون” لسرد الأبعاد القانونية لها وعواقبها وعقابها كذلك، ولكن، ما يحدث على أرض الواقع وفي العالم الأزرق على وجه الخصوص، هو العكس تمامًا للأسف الشديد، حيث تغيب الرواية الرسمية وربما تتأخر، الأمر الذي يعطي الوقت الكافي للسواد الأعظم من الناس بِ”الإفتاء”، وممارسة الهواية الشائعة لدى البعض في (نشر الشائعات) سواء بقصد أو دون قصد، لا فرق، وخلال ثوانٍ قليلة تنتشر الرواية بألف طريقة، ويصبح الجميع مختصين على الصفحات الافتراضية الزرقاء، فتضيع الحقيقة وتتشتّت جهود الأجهزة المختصة، وهكذا دواليك في كل حادثة وفي كل جريمة جديدة، وهذه الحالة تعتبر جريمة بحدّ ذاتها، وما أكثرها حاليًا..
في كتابه (حضارة التعاطف) ناقش البروفيسور “جرمي ريفكن”، تحديات الجنس البشري في القرن الواحد والعشرين، وأقتبس منه لهذا المقال هذه الفقرة: “لم يتوحد العالم في تاريخه بتكنولوجية اتصالاته وتجارته وثقافته، وتمزقه بالحروب، والأزمات المالية، والتغيرات البيئية، وانتشار الأمراض، كما هو اليوم. فكلما حاول الإنسان التفكير في طريقة للتعامل مع تحديات العصر في ظل العولمة، أخفق في جمع قدراته الذهنية، مما أفقده القدرة في أن يفكر عالميًا ويوظف طاقاته محليًا”.
ويُعيد الكاتب حالة التفكّك تلك إلى التناقض بين رؤيتنا لهذا العالم الجديد وبين قدراتنا على إدراكه في وعينا البشري، ويعود السبب في عدم الإدراك إلى الطريقة التي نمت بها عقولنا، فهي صالحة من حيث التفكير والشعور والسلوك في العالم القديم وبيئته فقط، ولم يعد له صلة في مجتمع العولمة الجديد وبيئته التي خلقناها لأنفسنا، لذلك تواجه البشرية اليوم تحدّي تشكيل وعي عالمي جديد يساعد الإنسان على التطور والتكيف مع متطلبات المجتمع الحديث قبل أن تزداد الخطورة، حتى يحلّ العقل والمنطق مكان الوعي الإنساني القديم..
ونحن وإن أسقطنا فكرة “جرمي ريفكن” بما ورد أعلاه على مجتمعنا حاليًا، نجد أننا تعولمنا بشكل قاد كثيرٌ منا نحو (الصدمة الثقافية)، مما خلق لنا هويات “مهجّنة”، أي تطور بالمظهر الخارجي فقط دون أن يرافقه تطورًا في الفكر والعقل والمنطق بشكل موازٍ، وهذا ما شوّه “الوعي” لدينا وخلق “صراعات” داخلية في الذات الإنسانية حدّ الانفجار، ثم انتقلت إلى ممارسة العنف الخارجي نحو الغير. كيف لا يحدث ذلك لمجتمع انفتح بشكل هائل ومفاجىء على جميع الثقافات دون جاهزية؟! وأمست سهولة الحصول على المعلومة (صوت وصورة) سهلة جدًا، خصوصًا في موضوع الممنوعات، ومن المعلوم أن كل ممنوع مرغوب..
دوافع الجريمة عديدة، وبدلاً من التركيز على سبل العقاب، يجب أن نقف عند أسباب القيام بها، فلا يولد الإنسان مجرمًا، وإنما يصبح مجرمًا، أضف إلى ذلك أهمية التركيز على إعادة تأهيل المنحرفين والمجرمين وعدم الاكتفاء بسجنهم فقط، لأنهم ببساطة شديدة سيخرجون فيما بعد على هيئة وحوش بشرية أكثر خطورة. ولا يجب علينا التركيز على جرائم الواقع فقط، فالجرائم الإلكترونية في العالم الافتراضي لا تقلّ خطورة، ذلك العالم (الأزرق) الذي عرّى الأغلبية وكشف عورات واستعداد كثير الكثير لارتكاب الجريمة؛ فكل إيذاء للآخر هو جريمة بغض النظر عن نوعها..
وعليه، ما نحتاجه اليوم حقيقةً في المجتمع الحديث هو (الأمن الافتراضي) والاجتماعي في العالم الأزرق قبل الواقعي؛ لأنه وسيلة التواصل الأكثر انتشارًا اليوم، وهذا لا ينفِ بالطبع حاجتنا إلى جميع أنواع منظومة “الأمن والأمان” الأخرى التي تتهاوى يومًا بعد الآخر، ونخشى عليها من غيابها أكثر..
هناك جرائم تُرتكب يوميًا على اختلاف أنواعها ودرجة خطورتها، ولكن تسليط الضوء على جرائم معينة – على الرغم من بشاعتها – يقودنا في أحسن الأحوال إلى الشكّ في لعبة (اللهّاية) التي تظهر بين الفينة والأخرى، لتشغل الرأي العام عن أحداث أكثر أهمية، وإلى حالة من “القلق الوجودي” في أسوأها، وكثرة القلق والضغوط يُميت خلايا الجهاز العصبي، وقد يؤدي ذلك إلى ضمور جزء منه “الأميجدالا” المسؤول عن (التعاطف)، والنتيجة هي زيادة الجرائم دون ندم واكتراث لعواقبها وضررها، وهذا الوضع يشي بدائرة مقيتة تعيد إنتاج نفسها بشكل قاهر للذات ومحبط للمجتمع ومرعب في ذات الوقت. فالسلوك الأخلاقي يا سادة هو سلوك مكتسب ولا يولد معنا، وما لا يتعلمه الفرد من القيم الأخلاقية في الصغر يصعُب تعلمه وهو كبير..
أختم بمقولة جميلة لِ(أفلاطون) في هذا الإطار “لا تصاحب الشرّير، فإن طبعك يسرق من طبعه شرًا وأنت لا تدري”. فالصاحب ساحب اختر جيدًا من تصاحب في العالم الواقعي والأزرق على حدّ سواء.
وتذكروا أن أعداءنا الحقيقيون ليسوا المجرمين من فئة الجهلة والبسطاء، وإنما شديدي الذكاء الفاسدون. فكل إنسان “مقهور” ومحروم وحاقد على الحياة والمجتمع، قد يصبح وحشًا مفترسًا في أول فرصة تُتاح له، وهناك نوع من الجرائم تصبح مع الوقت “محترمة” ومقبولة ومبرّرة بحكم قوة استمرارها..
عبرة من وحي الخبرة، فاتعظوا يا أولي الأمر، وحتى ذلك الوقت، أي وقت الانتباه لخطورة ما ورد أعلاه، حتمًا سيبقى لنا من هذا الحديث بقية… دمتم…
دة. عصمت حوسو