عاهاتك يا وطن – د. عصمت حوسو – الأردن

0 819

العالم الآن – في الوقت الذي ينشغل به العالم أجمع في مشاكل التلوّث البيئي على الرغم من أهميته، إلاّ أنه يغفل بقصد أو بدون قصد، لا فرق، عن وجود حالة من التلوّث أخطر بكثير؛ لأنه يلتفّ حول البشر ويعصف بالإنسانية، ألا وهو (التلوّث النفسي)، وهو ظاهرة خطيرة جدًا تهدّد البناء النفسي للشخصية الإنسانية، كما تهدّد تركيبة المجتمع والبناء الاجتماعي للعقل والضمير الجمعي، وآثارها وخيمة على البشر والحجر..

وهنا نتساءل جميعًا، هل تردّي الوضع الاقتصادي للمواطن هو السبب؟!
أم أن السبب هو تراجع دور الأسرة في ظل طغيان مؤسسات أخرى على دورها؟! أو ربما كثرة المشاكل الاجتماعية والظواهر الغريبة في هذه الحقبة الزمنية العجيبة؟! وهل يعود السبب إلى حال الوطن العربي – المضحك المبكي – الملتهب سياسيًا وغير المستقرّ أمنيًا الذي أرهقته المؤامرات من الداخل والخارج؟! وهناك من يعزي السبب إلى وسائل التواصل الاجتماعي والتقنيات الحديثة، فهل هم صائبون؟!
السؤال الأخير المطروح هنا؛ هل عُقَدْ الطفولة وطرق التربية الصارمة غير السويّة من “وليّ الأمر” في العائلة والوطن هي السبب في تلويث النفوس والعقول؟؟!!

لا يمكن أن يتلوّث الإنسان نفسيًا إن لم يكن العقل ملوّثًا أولاً بترّهات مشوّهة عن نفسه وعن الآخرين وعن محيطه وعن وطنه، الأمر الذي يولّد لديه مشاعر سلبية مصحوبة بحالة انفعالية (غير ناضجة)، ثم ينجم عن وضعه المُزري ذلك سلوكات غير مقبولة مضرّة بالذات – دون أدنى اكتراث – قبل إلحاق الضرر بالآخرين، وغالبًا ما تكون خارجة عن معايير “القبول الاجتماعي” في زمان ما ومكان ما. ولكن من هول ما نشهده حاليًا من أمراض اجتماعية وظواهر نفسية، خلقت لدينا حالة من (الاعتياد)، فأصبحنا بحاجة إلى “زلزال سلوكي” من نوع جديد لنرى ذلك السلوك أو غيره مُستهجن، أليس الفساد والاحتيال والكذب مثلاً أصبح مألوفًا أمامنا بعد استشرائه وأصبح يسمى فهلوة وذكاء حادّ؟!!!!!
فنحن نمشي الآن على قاعدة سلوكية مشهورة مفادها (كثرة التكرار تعلّم الشطّار) !!
طوبى للقابضين على جمر (الشرف والصدق) في زمن الشحّ الأخلاقي ولا عزاء للملوّثين نفسيًا، وعاهاتك يا وطن..

ما يساعد على تنامي ظاهرة تلوّث المواطن نفسيًا هي (عدوى السلوك) وسرعة انتشاره كسرعة البرق في عصر التواصل السريع جدًا والتغير الاجتماعي المتسارع، ولهذا الأمر تداعيات مرعبة، على الصحة النفسية والمجتمعية، وعلى النسق “القيمي” الجميل الذي تراجع (عربيًا) لحساب الملوّثات النفسية المدمّرة وطنيًا؛ لأن تلوّث النفس يجرّدها من ضمير الإنسانية – إن ما زال الأخير موجودًا – بالإضافة إلى تلاشي وازع الخير، الأمر الذي يقود إلى غياب القيم عند تضاربها مع المصلحة الشخصية، وهذا يجبر الشخص الملوّث نفسيًا على التفنّن في لبس الأقنعة الزائفة لتحقيق المآرب الخاصة وإن كانت فاسدة وعلى حساب المصالح العامة..

وبما أن السلوك معدٍ والسلبي منه على وجه الخصوص، فهو أشدّ تأثيرًا وأكثر إيذاءً من “الوباء المعدي”؛ لأنه لا يقتصر على التلوّث النفسي الذاتي، وإنما يتعدّاه إلى تلويث نفوس المحيطين أيضًا، وإفسادهم؛ من أجل الشعور بالراحة بوجود ملوّثين نفسيًا متشابهين مع الفاسد والمُفسد في ذات الوقت، وبالتالي زيادة عددهم فيصبحوا “الأغلبية”، ومن المعلوم أن تكرار السلوك يصبح جزءًا من تركيبة الدماغ ثم ينتقل بالجينات، وهذا حقيقةً ما نخشاه في الوقت الحالي، وهو انتقال سلوك الفساد والجُبْن والخنوع للأجيال اللاحقة بِ (الجينات)، وهنا مكمن الخطورة، وتلك بداية النهاية لما تبقّى من جين الأصالة والشهامة والنخوة العربية التي اعتدنا عليها في الزمن البعيد جدًا، رحمها الله..

إن تدنّس النفس وتلوّثها يحقنها بإبر الشرور حدّ الإدمان القاتل، وهذا ما يسبب لها (عاهة) مستديمة نتيجة الدمار والتدمير للذات وللآخر، وهل ينقص الوطن عاهات لنضيف إليه عاهات الملوّثين نفسيًا؟؟!! دستور منك يا وطن..
التلوّث النفسي الذي أناقشه هنا هو الخلل في السلوك، الناجم عن قصور في العقل الإنساني والذي يمكن توصيفه بالمرض “الأخلاقي”، وقد أوشك على الوصول لمرحلة الوباء، ويتطلب من أصحاب الولاية (العامة) إعلان حالة الطوارىء لإنقاذ ما تبقّى من الوطن ومواطنيه، والنظر للملوّثين نفسيًا بعين الجدّ، وأخذ الإجراءات اللازمة معهم قبل أن يتفشّى هذا المرض الأخلاقي في خلايا الجسد المجتمعي كالسرطان، أما إهمال هذا الوباء لا يقود سوى أن يمسي الشرفاء هم “الاستثناء”، وهذا في أحسن الأحوال، أما الأسوأ على الإطلاق هو استمرار حالة التلوّث النفسي على ما هي عليه الآن، واستمرار الحال ضربٌ من المحال، والله يستر..

أما أهم أعراض “التلوّث النفسي” التي يجب رصدها للإسراع في التدخّل وطلب المساعدة من أصحاب الاختصاص، هو وجود (الفوضى النفسية) كانعكاس للفوضى الدماغية التي تحصر العقل في التفكير المؤذي فقط، وكثرة الانتقاد والشكوى، وحالة من السخط والاستياء والعدوان، وضعف الروابط العائلية وتراجع الاندماج الاجتماعي، وعدم الإحساس “بالقيمة الاجتماعية” إلاّ من خلال الاستعلاء والاستقواء، وقلة الشعور بالانتماء والولاء، والتقمّص والتقليد الأعمى، وزيادة نسبة النفاق والتسحيج.
أما تزايد جرعة (الاستوزار) وبوس اللحى والرغبة المستميتة في تلميع الذات، أو تلميع آخرين كرتهم محروق مجتمعيًا للوصول إلى (الكرسي) الذي يساعد على سرعة نشر التلويث النفسي وزيادة رقعته، فحدّث بلا حرج، أضف إلى ذلك ارتفاع منسوب الطمع والنصب والغنى السريع، وتفشّي الفساد بأشكاله كافة وبين جميع شرائح المجتمع للأسف الشديد، ومن أعراضه الملحوظة كذلك تضاعف شحنة الكذب بشكل قميء، إلى درجة يعجز عنها “مسيلمة الكذاب” لو كان حيّا، والقائمة في هذا الإطار تطول..

أما ردّة فعل الشرفاء والحكماء عند رؤية أولئك الملوّثين نفسيًا على الشاشات وخلفها، فتظهر عليهم أعراض مزعجة مثل الشعور بِ اللّعيان مصحوبة برغبة شديدة في التقيّؤ من فرط التمثيل والعويل الكاذب لهم، لا لشيء سوى “مطمع” في مقعد حرير ومال وفير خلف “قناع الوطنية”، وكاسك يا وطن..

أما التلوّث النفسي الناجم عن حالة مرضية فهو مؤشر للتعب النفسي، وسرعان ما يزول فور التدخل (الطبي والدوائي)، وهو مُرهِق جدًا للشخص المُتعَب نفسيًا، ويصيبه الضرر دون وعي منه، ويعجز المصاب به عن التخلص منه دون مساعدة طبية، في حين أن التلوّث النفسي الأخلاقي الذي ذكرته في السطور أعلاه – وإن بدا أعلاه قاسيًا – فإن الضرر يلحق الجميع ويؤذي المحيط بِ (وعي تام) من الملوّث نفسيًا، ولا يمكن التخلص من ذلك الوباء دون (تدخّل قانوني) صارم جدًا وجدًا، وبخلاف ذلك يُضاف عاهة جديدة لعاهات الوطن كثيرة العدد والعدّة، تلك التي تزحف بسرعة فائقة لتغيير واقعًا متراكمًا من حالة “العجز ” نحو ما هو أسوأ، وعندئذٍ سنصاب جميعًا بالعجز الحقيقي عن (الإصلاح)، ولن يصلح العطّار بعد ذلك ما أفسده الدهر..

وبعد هذا العرض للتلوّث النفسي، بات من الملحّ جدًا اليوم تشكيل “لجنة” هدفها (التنظيف النفسي) للتخلص من (قاذورات) البشر النفسية لما تنتجه من “نفايات فكرية” وما يتبعها من السلوكات (اللاّوطنية) المشينة، وحتى ذلك الحين، سيبقى لنا من هذا الحديث بقية… دمتم…

دة. عصمت حوسو

رابط مختصر:
مقالات ذات الصلة

اترك رد