«بغداد في حداثة الستينات».. عودة لأخاديد الذاكرة

0 465

العالم الآن – صدرت عن «دار ألكا» في بروكسل الطبعة الثانية من كتاب «بغداد في حداثة الستينات» للكاتب والمترجم العراقي جمال حيدر. وهي طبعة مزيدة ومُنقّحة استدرك فيها المعلومات التي غابت عن الذاكرة بفعل تقادم السنوات، لكنه استرجع بعضها في أثناء زيارته الأولى لبغداد عام 2004 بعد أن تمثّلها برؤية مغايرة تتقصّى الأمكنة، وتفحص الأحداث بعين واقعية مُحايدة تتفادى قدر الإمكان المبالغات السمجة أو التقزيم المُتعمّد.
يتألف الكتاب من 7 فصول، إضافة إلى مقدّمة مُركّزة يؤكد فيها المؤلف أنّ هذا الكتاب ليس سيرة ذاتية، وإنما محاولة لرسم ملامح مدينة بغداد، وتدوين سيرة أمكنتها الشاخصة أو المطمورة التي استقرت في الذاكرة الجمعية للناس. ينطوي الكتاب على كمّ وافر من المعلومات والأرقام والتواريخ والتسميات «الإشكالية» التي تتضح معانيها كلّما توغّل المتلقي في ثنايا هذا الكتاب الممتع، وقلّب مزيداً من صفحاته الشيّقة.
لا يمكن الإحاطة بكل الأحداث والمعلومات التاريخية لمدينة بغداد، فالكاتب ينتقل بسلاسة بين الأزمنة المختلفة التي مرّت على مدينة بغداد؛ فتارة يعود إلى زمن أبي جعفر المنصور الذي بنى بغداد المدوّرة، وتارة يعود إلى سقوطها على يد هولاكو عام 1258م، وينتقل حيناً إلى العهد العثماني، ثم يتراجع حيناً آخر إلى الاحتلال البريطاني الذي قسّم المدينة إلى أحياء ومحلات أخذت أسماء الشخصيات والعوائل التي عاشت فيها، ويُورد نحو 70 حيّاً أو منطقة تبدأ بـ«باب المعظّم» و«الميدان» وتنتهي بـ«السيد عبد الله» و«العيواضية». وفي كل انتقالة يزوّدنا الكاتب ببعض المعلومات التاريخية، مثل نزوح الأرمن إلى العراق بعد الحرب العالمية الثانية واستقرارهم في الموصل وبغداد ومزاولتهم مهنة التصوير التي اقتصرت على الرجال تحديداً، إلى أن جاءت المصوّرة الأرمنية ليليان التي أخذت على عاتقها تصوير العوائل البغدادية المحافظة.
يتقصى المؤلف المعاني اللغوية لكثير من الكلمات والاصطلاحات الأجنبية التي دخلت إلى قاموس المحكيّة العراقية مثل «الكلجيّة» التي تعني بالمنغولية «موضع الرؤوس»؛ حيث كان يقف هولاكو ويعدّ «الرؤوس المحزوزة» للعراقيين، و«كَوك نزر» المُحرّفة عن العبارة التركية «كَوزيل نزر» وتعني «المنظر الجميل»، و«السِنك» التي تعني بالتركية أيضاً «الذباب»… وسواها من المفردات المنغولية والتركية والفارسية والإنجليزية التي وفدت إلى لغتنا العربية وأصبحت جزءاً من نسيجها المحلي.
وفي السياق ذاته، يذكر المؤلف بأن ظاهرة «الأشقياء» قد برزت إلى السطح بعد سقوط بغداد عام 1258م، ولم تنتهِ إلا في أواخر الستينات من القرن الماضي؛ حيث خيّرهم النظام القمعي السابق بين القتل أو العمل لمصلحة الأجهزة الأمنية، ففضّل معظمهم الخيار الثاني.
يعود بنا المؤلف في الفصل الثاني إلى الأسواق التي ازدهرت في زمن المنصور، مثل سوق الفاكهة، والقماش، والورّاقين، والعطّارين، والصيارفة، والأغنام، ثم ينتقل إلى زمن مدحت باشا الذي رمم الأسواق القديمة، وشيّد أخرى جديدة، ثم يتوقف عند أسواق أخرى راسخة في ذاكرة العراقيين، مثل سوق «الشورجة» وسوق «السراي»، وسوق «الصفافير»، وسوق «الجبوقجية» أي «الغلايين»، وسوق «الهرج»، و«الثلاثاء»، و«اللنكَة»، و«حنّون» و«حمادة»… وغيرها من الأسواق التي تماهت مع أسمائها أو مع مهنها أو مع الأماكن التي انبثقت منها وصارت جزءاً من تكوينها الجسدي والروحي.
يخصص المؤلف الفصل الثالث من الكتاب لأشهر شوارع بغداد وميادينها، مثل شارع «الرشيد»، و«السعدون»، و«النهر»، و«أبي نواس»، و«البنوك»، و«القصر الأبيض»، و«المشجّر»، و«الكفاح». ورغم أهمية هذه الشوارع ودورها في الحياة الاجتماعية البغدادية، فإن بعض المواقع والأمكنة لعبت دوراً مهماً في تنوير العقل العراقي، مثل مكتبة «مكنزي» التي كانت تبيع الكتب الإنجليزية والأميركية في بغداد. وساهم دونالد مكنزي في ترويج الكُتب الاشتراكية واليسارية في العراق. وجامع «الحيدرخانة» الذي اجتمعت فيه الحلقة الماركسية الأولى بمبادرة من محمود أحمد السيد؛ نجل إمام الجامع وخطيبه، في مفارقة غريبة للترويج للفكر اليساري من الجوامع التي تناصب اليسار عداءً مستحكماً في العراق والدول العربية والإسلامية.
ثمة محال شهيرة ذاع صيتها بين خاصة الناس وعامتهم، مثل «شربت زبالة» و«كعك السيد»، وأساطير انتشرت كانتشار العطر في الهواء، مثل أسطورة «طوب أبو خزّامة» الذي يعتقد البغداديون أنه هبط من السماء في حروبه المتواصلة. يكتظ هذا الفصل بالحديث عن نُصب وتماثيل كثيرة زيّنت شوارع بغداد وميادينها العامة، مثل «نُصب الحرية» لجواد سليم، و«الجندي المجهول» الذي صممه رفعة الجادرجي، و«كهرمانة» لمحمد غني حكمت، وتماثيل متعددة للسعدون، والرصافي، وأبي نواس… وغيرهم من الرموز السياسية والثقافية في العراق.
يتضمّن الفصل الرابع نبذة توثيقية عن تاريخ المقاهي في العراق، ومعلومات عن أول مقهى نُظم بشكل عصري، وأول من جلب الشاي إلى العراق، وكيف أصبح مشروبهم اليومي المفضّل. وثمة أرقام متفاوتة لعدد المقاهي في بغداد خلال القرنين الأخيرين. وقد تضمّن الدليل الرسمي العراقي لسنة 1936 جدولاً بلغ فيه عدد المقاهي بشارع الرشيد وحده 62 مقهى؛ مسجّلة بأسماء أصحابها، وعناوين المقاهي. وفي مطلع الأربعينات عرفت بغداد المقاهي العصرية، مثل مقهى «بلقيس» الذي كان يقدّم الشاي بالحليب على الطريقة الأوروبية. يصف المؤلف شارع الرشيد بـ«الإمبراطورية التي تعجُّ بالمقاهي»، فمقهى «البلدية» رأسها، و«أم كلثوم» و«الزهاوي»، و«حسن عجمي»، و«البرلمان»، و«الشابندر» و«الشط»، و«التجّار» جسدها، و«شطّ العرب»، و«البرازيلية» و«سمر» أطرافها. يتردد المثقفون العراقيون على مقاهٍ بعينها، مثل «حسن عجمي»، فيما كان «الشابندر» يحتضن قارئ المقام العراقي رشيد القندرجي، والسيّاب. أما «البرازيلية» فكان يتردد عليه الباحثون عن الهدوء والسكينة، أمثال عبد الوهاب البياتي، وبلند الحيدري، وفؤاد التكرلي، وعبد الملك نوري… وغيرهم من أبناء الطبقتين المتوسطة والعليا. ثمة مقاهٍ معادية للثقافة الرسمية السائدة، مثل مقهى «مجيد» الذي يُطلق عليه «مقهى المعقدين» أو «مقهى العباقرة» الذي لا يخلو من العناصر الأمنية التي تحصي على الأدباء والفنانين أنفاسهم.
يرصد المؤلف في الفصل الخامس نهر دجلة بجسوره الثمانية؛ «وشرايعه» المتعددة على ضفتي الرصافة والكرخ، وفيضاناته التي بلغت 18 فيضاناً؛ أولها سنة 1356 وآخرها سنة 1954، كما يتوقف عند وصف الرحالة الإنجليزي جيمس ريموند وليستيد، والأب أنستاس ماري الكرملي، وعبد العزيز القصاب، لبعض هذه الفيضانات.
أما الفصل السادس «طقوس» فقد قسّمه المؤلف إلى 9 عناوين؛ هي: «رمضان» و«المحية» و«العيد» و«عاشوراء» و«مدارس» و«شموع الخضر» و«صيام زكريا» و«الكَسلة» و«الخِتان»، وهي جميعاً طقوس محلية معروفة، باستثناء «مدارس» الذي يجب أن يندرج خارج هذا الإطار ويضاف إلى الفصول الخمسة الأولى مع شيء من التوسّع، خصوصا أن «الإعدادية المركزية» قد ضمت شخصيات سياسية وثقافية مهمة. فيما ضمّ الفصل الأخير «فوتوغراف» 57 صورة فوتوغرافية لأبرز معالم بغداد الحضارية والثقافية والفنية.
ما يلفت الانتباه في هذا الكتاب أنه مدوّن بلغة أدبية رشيقة هي أقرب إلى لغة القصة والرواية منها إلى السرد التقريري، فثمة مشاعر قوية طافحة على مدار النص السردي تؤرخ للفتى النابه منذ دخوله إلى الصف الأول حتى مغادرته العراق في منتصف السبعينات حين اقتلعه البعث من جذوره ورمى به إلى المنافي الأوروبية النائية.
” الشرق الاوسط”

رابط مختصر:
مقالات ذات الصلة

اترك رد