العالم الآن – أعشق الاقامة في بيروت”، يقول المخرج السويسري نيكولا فاديموف خلال لقاء لي معه في فندق الـ”بريستول” البيروتي للحديث عن فيلمه الوثائقي الأحدث “أبولو غزة” الذي عرضه مهرجان “أيام بيروت السينمائية”. أسأله إذا كانت هذه زيارته الأولى لبلاد الأرز، فيخبرني بأنها الثالثة أو الرابعة. لم يعد يذكر جيداً. الرجل الخمسيني الذي يجلس قبالتي مستشرق معروف في الأوساط السينمائية، لأنه فلسطيني أكثر من الفلسطينيين أنفسهم، عروبي للعضم، وشرق أوسطي بالتبنّي.
ما الذي يجعل سويسرياً يهتم إلى هذا الحدّ بالعرب ومشاكلهم التي لا تنتهي؟ يقول: “هناك أسباب عدة. بدايةً، اكتشفتُ ذات يوم إنني من جورجيا. أول مرة جئتُ فيها إلى الشرق، كانت بمنزلة اكتشاف. شعرتُ بالانتماء إلى هنا. لدي إحساس أنني من هنا أكثر من كوني من جنيف. السبب الآخر هو أن أم أولادي من أصل مغربي. تزوجنا عندما كنّا في العشرينات، وقمنا بجولة في العالم العربي. أول فيلم أخرجته، صوّرته في اليمن وحمل عنوان “يهودي، عربي، يمني” (1989). في اليمن، اكتشفنا جماعة من اليهود ينتشرون وسط الجبال وأنجزنا هذا الفيلم عنهم. كان هذا قبل أن يهاجروا إلى إسرائيل. حاولنا مقاربة اندماجهم في المجتمع اليمني”.
إحساس بالظلم
عندما انتهى من تصوير الفيلم في اليمن، صادف أن التقى بصديق مصوّر في القدس. كان الأخير يغطّي الانتفاضة الأولى (1987 – 1993). لم يكن عمره يتجاوز آنذاك الـ24. انخراطه في القضية الفلسطينية جعله يتلقى صفعة على وجهه، هو الذي يأتي من بيئة يغلب عليها الاستقرار. “من خلال مرافقة صديقي المصوّر عبر الضفّة الغربية وبيت لحم ورام الله وغيرها من المدن الفلسطينية، اكتشفتُ الاحتلال وكنت شاهداً على الذل اليومي الذي يعيشه الناس في ظله. إلا أنني شعرتُ بارتياح في هذا المكان، وهذا الشعور اقترن عندي بإحساس عالٍ بالظلم. ما كان ممكناً أن أغض النظر بعدما علمتُ بهذا الأمر، خصوصاً في مثل العمر الذي كنت فيه. كلّ ما اختبرته في هذه الفترة من حياتي أسس للبقية. بسرعة اقتربتُ من المشهد السينمائي في فلسطين، وكوّنتُ صداقات متينة”.
هذا كلّه أدى بفاديموف في مطلع التسعينات إلى تأسيس مركز ثقافي اسمه “لوزين” (مصنع بالفرنسية) في جنيف. مقر للفنّ البديل يهتم بالمسرح والسينما والموسيقى. أول حدث مهم احتضنه المركز كان أسبوعاً مخصصاً للشرق الأوسط. هكذا، بدأ فاديموف ينسج شبكة علاقات مع العالم العربي بات عمرها اليوم أكثر من ثلاثين عاماً، ويفتخر حينما يتحدث عنها. وصولاً إلى انشغاله في السنوات التالية بإنتاج أفلام لسينمائيين فلسطينيين أبرزهم رائد أنضوني وآن ماري جاسر.
في مناسبة الحديث عن أسماء سينمائية، يشيد فاديموف بالطفرة الحالية للفيلم العربي، الممتدة من العراق إلى ليبيا، من دون أن ينسى مقارنة الظروف التي يعمل فيها السينمائي العربي قياساً بالأوروبي: “هؤلاء يمنحون درساً للسويسريين والفرنسيين الذين يولدون وفي أفواههم معالق من ذهب. لطيف أن تولد مرفّهاً، ولكنني لستُ متأكداً أنه محفز جيد للإبداع، علماً أنني لا أقول إن على الفنّان أن يتعذّب ليكون خلاقاً. في رأيي، القيود مهمّة وتحث على الخلق”.
“تأهيلي المهني كان استثنائياً”، يتذكّر فاديموف قبل أن يعود سنوات إلى الخلف ليروي المآسي التي شهدها في بلدان العالم الثالث، يوم انضم إلى فريق برنامج تلفزيوني سويسري مشهور باسم “زمن حاضر”. هذا البرنامج عرف أياماً مجيدة في سبعينات القرن الماضي وثمانيناته. فاديموف عاصر الفترة الأخيرة منه. بفضله ذهب إلى بوركينا فاسو ورواندا، وكذلك ليبيا والأردن. “كنا ننجز أفلاماً وثائقية وتحقيقات استقصائية. أحدها، “عندما قابلنا كارلوس” (1995)، يتحدّث عن الشتازي الألمانية يوم فتحت ملفّاتها، فاكتشفنا ان بعض السويسريين ذهبوا للقاء كارلوس الإرهابي بغية شراء صاروخ وتفجير مركز نووي في فرنسا. هذه الفترة من التاريخ، أي نهاية السبعينات، لطالما أغوتني. جزء كبير من هذا الفيلم دار في بيروت، أيام الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ورموزها من جورح حبش ووديع حداد. أفلام كهذه سمحت لي التنقيب في هذه المرحلة، ومذذاك أعود دائماً إلى المسألة عينها: موضوع الالتزام بقضية. وفعلتُ هذا بلا أدلجة. لم أشعر يوماً أنني ماركسي أو أي شيء آخر. أحسستُ بشغف حيال “الثورة العالمية” التي شهدتها المنطقة العربية في فترة من الفترات. بعضهم ممّن كانوا بمثابة رموز، تمت استمالتهم لاحقاً، وثم توظيفهم لمصالح سياسية. لذلك أنا لا أسعى إلى تأليه أحد”.
تاريخ يصنعه مجهولون
عبارة “تأليه” هذه تولّد نقاشاً بيني وبينه عن كمّ التدليس السياسي الذي ارتبط بالقضية الفلسطينية. فيروي بأنه أنجز أخيراً فيلماً عن عالم الاجتماع السويسري جان زيغلر، وتسنّى له مناقشته. زيغلر، البروفيسور الثمانيني الذي صادق بوتفليقه، ينتمي إلى جيل قارب القضايا مقاربة كونية، وقف في وجه الإمبريالية وناهض الصهيونية، ولكن لم يتوانَ عن التحالف مع بعض الأنظمة الفاسدة. باسم النضال، غضّ هذا الجيل الطرف عن الكثير من الممارسات. “هذا جيل سابق لي، إني لا أؤيد هذا النمط من العمل”، يقول فاديموف مؤكداً أنه مذ اهتم بالصراع في الشرق الأوسط، أدرك مدى شمولية الأنظمة العربية، فلم ينبهر بأي زعيم من الزعماء ولم ينتصر لأي حزب، بل شدّه الناس وقصصهم، هؤلاء المجهولون الذين يصنعون التاريخ. هذا كله نتيجة فقدانه الأمل في السياسة والسياسيين.
في جملة اعتراضية، أسمعه يقول: “أحب استثمار الزوايا الميتة في الحكايات”. وهذا هو بالضبط ما هو عليه فيلمه الأحدث، “أبولو غزة”، الذي يجري تحقيقاً عن تمثال أبولو الذي عثر عليه صيّاد سمك غزاوي في العام 2013. يقتفي فاديموف أثر هذا الاكتشاف، ويحاور علماء آثار وناس عاديين وحرفيين وغيرهم لمعرفة أصل التمثال وفصله. يقول المخرج إن “أبولو غزة” مرتبط بفيلميه السابقين عن فلسطين، وهذا هو الجزء الثالث من ثلاثية. فبعد عملين في الأراضي المحتلة (“قفازات عكا الذهبية” و”عايشين”)، كان فاديموف قد قرر العودة مجدداً إلى فلسطين. في لحظة اتخاذه هذا القرار، قرأ مقالاً عن أبولو غزة، فأبهرته فكرة ظهور رمز للجمال والشاعرية في أرض منكوبة. تلقى هذا الاكتشاف كإشارة، وبدأ في طرح تساؤلات حول مكان الجمال في هذه المنطقة تحديداً، حيث تكثر الحروب وتشتد العصبيات الدينية.
آذان الجدران
“منذ البداية، كنّا نعلم أننا لن نعثر على تمثال أبولو. الرحلة هي التي كانت مهمّة لا الهدف. كما يقول محمود درويش، إن الطريق إلى البيت أهم من البيت. وددتُ سرد حكاية يمكن من خلالها استحضار كلّ وجهات النظر المتناقضة. هذا أكثر فيلم لي يقترب من الفكرة التي كوّنتها عبر السنوات عن المنطقة العربية: لكل الحقيقة التي يؤمن بها، حقيقة تتناقض أحياناً مع حقيقة الآخر. وددتُ ان أروي قصة التمثال بسلاسة من دون تنظير. أما المسافة التي أصوّر منها الأشياء، فهي ضرورية بالنسبة لي”.
يؤمن فاديموف أن الفلسطينيين يدركون أن نصف قرن من الألم والذل والقتل لا شيء قياساً بتاريخ بلادهم. لا بل هذه هي الفكرة التي يتمسّكون بها وتشكّل عندهم خشبة خلاص. “عندما نحفر في أرض غزة، ونرى فيها الآثار، يتيح لنا هذا أن نضع الصراع في رؤية أشمل وأوسع. هذا الفيلم ما كان ممكناً أن أنجزه قبل عشر سنوات. نظرتي تنطوي على شيء من النضج السياسي. لدي قناعات راسخة، ممّا يجعلني في غنى عن التعبير عنها في كلّ لحظة. علينا أن نحسّها في الفيلم. أترك للمُشاهد أن ينشئ علاقته الخاصة بفلسطين. لا نقول كلّ شيء بوضوح، هناك الكثير من المسكوت عنه. المُشاهد الذكي يلتقط الكلام من بين السطور. في المقابل، نشعر بالرقابة الاجتماعية في غزة. وطأتها ثقيلة جداً. الناس يقولون إن للجدار آذان. الكلام لم يتحرر بعد”.
أسأله في ختام اللقاء: “ماذا عن السلطات المحلية، خصوصاً حماس، هل سهّلت عملك؟”: “كانوا يعلمون أننا نصوّر، ولكن حاولنا ألا نشد الانتباه إلى قصة أبولو، لأنها توقظ الخلافات بين الفصائل. الحديث عن أبولو يعني وضع كلّ الخلافات على الطاولة. الأحزاب الناطقة باسم المقاومة في غزة لا تمثّل الناس البتة. هي تمثّل جزءاً منها بلا شك. غزة مدينة محافظة، ومع ذلك فيها حركة فنية وثقافية خارج إطار الفكر المحافظ. فيها عدد كبير من الفنانين. وفي اللحظة التي سينكسر فيها الحصار، ستحدث حركة أشبه بالـ”موفيدا” في اسبانيا”.
” اندبندنت”