مئة ألف شهيد – د. عصمت حوسو – الأردن
العالم الآن – في هذا اليوم الذي يسمونه ذكرى (النكبة)، نكبة اغتصاب فلسطين، وبيعها بثمن بخس، وتشريد سكانها (الأصليين) الشعب الفلسطيني العظيم، لا يسعنا إلاّ أن نترحّم على كرامة العرب، الذين شهدوا اغتصاب أختهم – عأساس العرب إخوات – أمام أعينهم على مدى سبعين عامًا ونيف، ولم يحرّكوا ساكنًا، ولم يكتفوا بمشاهدة فلم (العهر الصهيوني) والاستمتاع بالمشهد فقط، وإنما أكملوا اليوم المشهد الأخير من عذاب فلسطين وشعبها، وسيختمون نهاية الفلم الإباحي الفاحش الخادش “للحياء العربي”، إن وُجد الأخير، بإهداء شعبها الذي حافظ على مدار العقود السبعة الماضية على ما تبقّى من كرامة العرب بِ(هدية) نفي الوجود ونزع الحدود؛ بِ”صفقة” مليئة بالقرون..
هذا هو العهر بعينه؛ (قهر الجغرافيا “المكرّر” للتاريخ والكرامة) بنكهة صهيونية بامتياز..
في ذكرى (كارثة) شعب فلسطين التي يسمونها “نكبة”، تكون في كلّ عام أقسى وأكثر مرارة من سابقه، فهذه الذكرى المشؤومة جاءت اليوم ونحن نشهد الأوطان العربية أكثر ذُلاً وتفتيتًا ومهانة، وما زال الانقسام الفلسطيني في أوجه، وبعد أن كانت “قضية فلسطين” خاصرة العرب، أضحت اليوم (التجارة الرائجة) التي لن تبور على مرّ العصور، تلك هي مآلاتها اليوم للأسف الشديد..
لم تتوقع أمريكا العظمى ولا أوروبا ولا حتى الكيان المزعوم ولا أنتم يا عرب، هذا “الصمود الأسطوري” لشعب فلسطين العظيم على مرّ السنين، وعلى الرغم أن فلسطين في الواقع مُحتَلّة بفتح اللام، إلاّ أنها الدولة الوحيدة والشعب الوحيد غير المحتلّ إلى الآن، وما زال يقاوم ويدافع عن أرضه وعرضه بدماء أبنائه وبناته وكهوله ونسائه وأطفاله؛ بالحجارة وسكاكين المطبخ أمام دبابات الصهاينة وصواريخهم، كيف لا وإناء هذا الشعب ينضح بِ(الكرامة) حدّ التخمة، وربما يفيض لتعويض النقص في كرامة العروبة المسلوبة والمنزوعة إرادتها..
وعلى الرغم من الواقع العربي الموشّح بالسواد والإذعان والذلّ والعار، إلاّ أن ما زال منهم من يرفض صفقة القرون وإن كانوا “الحلقة الأضعف”، فهل تتوقعون إذًا أن يقبل بها ذلك الشعب الفلسطيني الجبّار الذي تحمّل التهجير والنزوح والتشريد والقلّة والعوز والحصار في ظلّ تخلّي الجميع عنهم أن يقبلوا بعد كل تلك الدماء الطاهرة التي روت تراب فلسطين ببنود الإذعان وصفقة العار ؟؟!!!
الجواب قطعًا لا، وهذا ما تُعوّل عليه دولة الكيان الغاصب الجاثم الحاقد، الذي جثم على صدورنا سبعة عقود وما زال، فليس من مصلحة الصهاينة البتّة القبول بصفقة القرن وإنهاء حروبهم (المفتعلة)، التي تقتات عليها منذ زرع ذلك الكيان على أرض فلسطين المقدّسة واستباحة مقدّساتها، وأي مفكّر ومحلّل للوضع الراهن بإمكانه استقراء موقفها الذي ستختبىء خلفه، وراء (خلفية) الرفض الفلسطيني، ورفض “بعض” العرب، أما خرافة “السلام” المزعوم كان (اللّهاية) التي ألهت العالم والعرب بها، وعدم تحقيقه إلى الآن، هو الدليل القاطع على ذلك.
كيف يمكن لكيان الصهاينة أن يتوّحد من داخله المفكّك المسكون بجميع الجنسيات سوى بتفكيك الفلسطينيين وجيرانهم؟؟!!
واللعبة التي لعبتها على العالم، وما مارسته من حيلة (الابتزاز العاطفي) على مدار العقود الماضية، هي كرتها الرابح، أو (الجوكر) الذي استعملته في وقته حينها وفازت، فخرافة “محرقتهم” المخترعة، هي “القوت والزاد” الذي تعيش عليه؛ لحشد الدعم المعنوي من شعبها في الداخل، والدعم المالي والعسكري من الخارج، فكانت تعزف على وتر “معاداة السامية” وهي السيمفونية الوحيدة الرديئة التي بإمكانها من خلالها جمع الصهاينة على أرض فلسطين المحتلة، فهل عقلٌ مدبّر بهذا (الدهاء) استغلّ العالم، والعرب على وجه الخصوص، وحرّكهم كأحجار الشطرنج نحو مصالحه فقط، سينهي الحروب في المنطقة بتلك السهولة؟؟!!
من مصلحتها الاستمرار بإخافة شعبها وابتزاز العالم للحفاظ على كيانها، بإبقاء الحروب مشتعلة في المنطقة؛ كيف لا وهي ضامنة تمامًا أنها تنعم بالأمن ومحمية – رغم ادّعائها طلب الحماية – من الواقع العربي المأزوم والمهزوم في ذات الوقت، فاطمأنوا يا عرب، شعب فلسطين سيقاوم، ولن يرضخ، ولن يركع، والصهاينة يعوّلون على ذلك، للاختباء وراء رفضهم واتهامهم بنقض السلام كالعادة..
ما يطمح إليه الصهاينة أكبر بكثير مما ستأتي به صفقة القرون المسرّبة بنودها بين الفينة والأخرى، لجسّ نبض الشعوب وقياس ردّ الفعل العربي من خلال استراتيجيتها المعتادة باستخدام (الحرب النفسية)، وهي دائمًا تنجح بها، أتدرون لماذا؟!
لأن هذا الكيان رغم قذارته إلاّ أنه اشتغل بطريقة تجبرنا على الوقوف عندها وتحليلها، من خلال دراسته لسيكولوجية الإنسان العربي وبنية العقل العربي، ومن هنا وضعت خططها في احتلاله بشتّى الوسائل، أضف إلى ذلك احترامها لتخصصات هامة مثل علم النفس والاجتماع واستثمارها في هذا الحقل من العلم، ونحن نراوح مكاننا وما زلنا ننظر بطريقة دونية لتلك العلوم الإنسانية في دولنا العربية، وفي الوقت الذي كانت تُلهي العرب ببعضهم، بالعزف على وتر الدين وتقسيمهم إلى مذاهب وطوائف وصنعت لهم داعش وغيرها، كان هذا الكيان يتطور علميًا وحضاريًا، ويُبحر في حقل الدراسات والأبحاث العلمية، وهذا ما أعادنا للوراء قرون، وأعطاها الفرصة للتقدم علينا بقرون، وتمنّنها علينا بصفقة القرون.. ويا للعار !!!
ومع كل هذا الدمار والانكسار، لم يتمكن عدوّنا الأزلي من كسر إرادة شعب فلسطين وتحديدًا شعب غزّة الجبّارين، فغزّة العزّة هي الأشدّ قبحًا في عيون الأعداء الصهاينة، لأنها أكثرنا قدرة على تعكير مزاجه، غزّة وشعبها المقاوم هو للوطن العربي “نيشان” وللكرامة عنوان..
مئة ألف شهيد وربما أكثر منذ نكبتك يا فلسطين، وما زلتِ تتبرّعين بدمائك، دفاعًا عن كرامة الأمّة المصابة بفقر الدم العربي (الأصيل).
وفي هذا اليوم الموجع، وفي كلّ يوم، نقول لكِ؛ يا أيّها المستحيل، يسمونك “فلسطين” الكرامة، ما أجملك، فلولا كرمك وجودك بأرواح شبابك الأبطال، لماتت الكرامة العربية منذ زمن بعيد، وما يروي ترابك ويحييه، ويُبقي قضيتك معلّقة في رقاب العرب، رُغمًا عنهم، هو دماء زهور أبنائك وشجاعة بناتك، فقط..
ومن عندك يا فلسطين، سنستعيد الكرامة للعرب، ومن هناك أيضًا سينطفئ الزمن الهمجيّ و “قرونه” المُعيبة كثيرة العدد والعدّة..
وأختم بكلمات “محمود درويش”: (على هذه الأرض ما يستحق الحياة، على هذه الأرض سيدة الأرض، أم البدايات أم النهايات. كانت تسمّى فلسطين، صارت تسمّى فلسطين)..
في هذا اليوم من كلّ عام سيبقى لنا من هذا الحديث بقية وربما بقايا، طالما عدونا الوحيد ذلك الكيان الغاصب يلوّث ترابك يا فلسطين.. تحيا فلسطين، وتحيا المقاومة…. دمتم…
دة. عصمت حوسو