مُكرَهون “رقميًا” – د. عصمت حوسو – الأردن

0 800

العالم الآن – الإكراه بشكل عام هو إكراه الناس على فعل (السوءة)، وفعل ما لا يرضوه لأنفسهم وللوطن (قهرًا) وقسرًا في ذات الوقت، سواء في الواقع أو في جميع “مواقع التواصل الاجتماعي الرقمي”، الأمر الذي لا يؤذي مرتكبه فحسب؛ وإنما يمتد أثر الفعل المستفزّ أو المشين على الجميع دون استثناء، فيقوم الفاعل بالفعل غير آبهٍ في العواقب، سواء “التوقيف” أو الحبس أو الضرب أو مزيد من الخسائر وغيرها.
كثيرة هي أشكال “الفساد” والإفساد التي لا تُعدّ ولا تُحصى في عصر (الانفلات الرقمي) غير المحسوب حسابه، وفي ظلّ غياب الجاهزية الفعلية لِ (الاقتصاد الرقمي)..

أما الإكراه الرقمي الذي أعنيه هنا، هو الذي يترك المواطن بلا حول ولا قوة، ودون قدرة أو اختيار، فيشعر بعدم الرضا، وانعدام الأمان، لإدراكه وجود ما يفتك به وبالوطن، فيرجّح هنا فعل الشيء وإن كان مضرّا على أن يتركه ويستسلم، ويلجأ إلى أضعف الإيمان وهو (التعبئة المعنوية الرقمية)، والتي بدورها سرعان ما تتحول إلى واقع أليم، وهنا مكمن الخطر، ولعلّ شواهد “الواقع” يشي بخطورة ما يحدث في “المواقع”، فلم يعد هناك سقوف للوقوف عندها ولا حتى خطوط حمراء، فبات الواقع الرقمي “الأزرق” موشّح بجميع الألوان التي تنذر بالسواد..

الإكراه عمومًا يعني تنفيذ ما هُدّد به، ولكن الإكراه الرقمي اليوم هو إكراه (إرادي)، فيشعر المواطن أنه مُجبر ذاتيًا على القيام بما يقوم به، اعتقادًا أن فعله من باب الوطنية، على الرغم أنه يعلم تمامًا عواقب ذلك، ولا يكترث لما يتعرض له من “إكراه” لممارسة الفعل المغاير، ولا لنتائج عدم الامتثال باهظة الثمن، ويأتي اختياره القيام بالفعل المعاكس بمحض إرادته، فهو إكراه الذات على (الفعل) مقابل رفض الإكراه على (اللاّفعل)..

ما نتأسّف له حقًا أننا نشهد تفشّي حالة الإكراه الرقمي وغيرها من الأحداث المأساوية في هذا الشهر الفضيل؛ لأن الهدف من شهر رمضان ليس فقط الإمساك عن الطعام والشراب وغير ذلك من الكليشيهات المعلوكة التي يرددها الجميع لغوًا لا فعلاً، هدفه المبارك هو كبت النفس عن النزوات العدوانية واستفزازها من قبل الجميع، وكبت السلوكات التي تسيء للذات وللآخر، حتى نبعد عن اعتبار الصيام (إكراه اجتماعي)، ونتجنّب العنف المستشري منذ بداية الشهر الفضيل لفظيًا وجسديًا وماديًا وحتى وطنيًا، وما يحدث حاليًا من (العنف الوطني الرقمي) يسيء إلى بركات هذا الشهر..

من حقّ المواطن أن يشعر بشكل عام وفي كل أيام العام بالأمن والأمان، وأن يشعر في شهر رمضان على وجه الخصوص بالراحة والطمأنينة، بالحوار لا بِ (الإكراه)، حتى لا تزداد حالات “الانفعال العصبية” التي لا تُحمد عُقباها لا على المواطن ولا على الوطن، والتي تخلق بدورها نوع من (الشيزوفرينيا الوطنية)، ولن يميّز المواطن حينها هل هو مُكره على الإذعان حماية للوطن، أم أنه مُكره للتصعيد حبّاً به!!! والفرق كبير جدًا..

الإكراه الرقمي الذي يحدث حاليًا يمكن تسميته بِ (الإكراه بالجذب)، فسرعة انتشار المعلومة تسبب عدوى السلوك بنقلها وتداولها، انطلاقًا من قاعدة سلوكيه تؤكّد التصور المسبق للحالة المثالية المرغوبة، والإكراه الرقمي الذي يستخدم أسلوب الجذب قويّ جدًا، وهو أقوى من الوسائل التقليدية “القمعية” من حيث الأثر وسرعة التأثير، ويعود السبب في ذلك أن طريقة الجذب تحوي أدوات مختلفة تقنع المتلقّي بأدلّة واقعية يعرفها جيدًا وتمسّ طريقة حياته المزرية، لذلك تقنعه طريقة الإكراه بالجذب ما عليه فعله للوصول إلى حيث يريد، طالما ليس لديه ما يخسره، والخبرة الحياتية علّمتنا أن لا نتحدّى الشخص الذي ليس لديه ما يخسره، فهو الكاسب حتمًا؛ لأنه خاسر على جميع الصُعُد، وربما تعميم الخسارة تشعره بالارتياح، فتلك الطبيعة البشرية..

من المعلوم أن الفاعل الاجتماعي يكون مدفوعًا للقيام بدور ما، سواء كان ذلك الدافع حافزًا إيجابيًا أم استفزازًا يقوده للقيام بنشاط اجتماعي ما، سلبي أو إيجابي، خصوصًا إذا كان فعله المقصود يتوافق مع تطلعاته الوطنية وإشباع أفضلياته الفردية، بغض النظر عن “المعيار الاجتماعي” الذي يستند عليه، أكان معيارًا وطنيًا، أو معيارًا تسحيجيًا يعتمد على المكافأة وتحقيق المنافع الشخصية، وربما معيارًا يخدم أجندات أخرى داخلية أم خارجية، لا فرق..

لا تعوّلوا على “تقلّص” الإكراه الرقمي وعدواه السريعة، فنحن نعيش في زمن (الاقتصاد الرقمي) الذي لم تعد تجدي فيه الوسائل التقليدية في حلّ المشاكل الطارئة على الوطن، وبما أن ممارسي الإكراه الرقمي مدفوعين لممارسة دور معين، يشكّل كل منهما للآخر موارد حالية للمعلومة التي لم تعد كامنة، وإنما مكشوفة على جميع وسائل التواصل الاجتماعي وتطبيقاتها، فإن ذلك يستتبع استحالة إكراه جميع من في المجتمع للوصول إلى مرحلة (الرضا) والهدوء عند نقطة يكون فيها المواطن محرومًا من كل حرية، ومسحوقًا من حقه في المشاركة في تقرير مصيره تحت طائلة العقاب بسبب فقدان المرونة، وغياب نموذج “القدوة” عند المطالبة بالالتزام والتضحية، ازدواجية المعايير لن تجدي نفعًا في عصر الاقتصاد الرقمي يا سادة.

الحلّ يكمن في ضرورة وجود الاجتذاب (الريادي) للقيم وللنماذج المثالية إن جاز التعبير، لأنها بالعدوى الرقمية ستمتص الغضب الشعبي والرقمي أيضًا.
الإكراه بكافة أشكاله والتزّمت والتهوّر والانغلاق هي آفات لا يجب أن نغلق أعيننا عنها؛ لأنها تؤدي إلى سلب الإنسان شعوره بإنسانيته وانتمائه لوطنه وولائه أيضًا، بالإضافة إلى تحطيمها لإرادته الواعية، عدا ذلك هو افتراء على (العقل البشري) أمام “العقل الرقمي” الذي اخترعه، واغتصاب للمشاعر الإنسانية لصالح (المشاعر الرقمية الإلكترونية)، والأخطر هو الخرق لجميع قوانين ونواميس العدالة “الكونية”.

أي وطن يقوم على (النرجسية) ورفض الرأي المعارض والانغلاق، لن يكون سوى أرض خصبة لاستثارة العنف الرقمي والواقعي على حدّ سواء؛ لأن “الانغلاق” يغلق العقل والعقلانية ويخترق الأمن، فيمسي عمله بمثابة تزمّت انفعالي لإجبار الآخر على الخضوع للقهر الاقتصادي الطاحن والسياسي الخانق، وهذا يؤدي إلى التفكك الاجتماعي في أحسن الأحوال، وفي حال ضعفت سلطة القانون وتراجعت قدرة الوطن على فرضه، تنفجر العدوانية الرقمية الكامنة نتيجة عقود من الكبت والشعور بالإحباط، فيصبح الاعتداء على القانون ليس الاستثناء، ويصبح المتداول استباحة حرمات البيوت والممتلكات دون مراعاة للمواطنة وللأخلاق الوطنية والانتماء للوطن.

أهم ما يتّسم به المستقبل الرقمي يا كرام هو تجسير الفجوة الحاصلة في الواقع من حصره على طبقتين لا ثالث لهما؛ فقراء وأثرياء، وتجنّب الإقصاء العابر للأجيال، وهنا تبرز الحاجة بشكل ملحّ للإدماج تفاديًا لخلق عدم تكافؤ بنيوي، واقتصار المستقبل على طبقتين رقميتين من البشر كما هو حاصل في الواقع، فلا تجعلوا شعار المستقبل الرقمي كما هو شعار الواقع المأزوم (لا خيار، ولا حقوق، ولا أمان، ولا ثقة)، فتلك مخاطرة موجعة للجميع دون استثناء، فضمان الحريات جميعها واحترام الإنسان والأمن والأمان والفرص المتساوية هي القيمة الفضلى للمستقبل الرقمي لجميع مؤسسات الوطن، وهي العائق أمام انتشار الإكراه الرقمي الذي سيودي بالمواطن وبالوطن نحو الهاوية..
فلا تلقوا بأنفسكم وفينا وفي الوطن إلى التهلكة يا أولي الأمر..

بكل ما سبق لا ببعضه، فإن التغيرات المحلية والعربية والعالمية واستشراف المستقبل الرقمي، تحتّم علينا إعادة كتابة (العقد الاجتماعي) بشكل شمولي لا مجزوءًا للتناغم مع المرحلة ومع ما هو قادم لا محالة..
وحتى ذلك الحين، أي التحول نحو الاقتصاد الرقمي (الحقيقي) والقضاء على الإكراه بكافة أشكاله، سيبقى لنا من هذا الحديث (الرقمي) بقية… دمتم..

دة. عصمت حوسو

رابط مختصر:
مقالات ذات الصلة

اترك رد