العالم الآن – نجحت النسخة الثانية من مسلسل “العاصوف” السعودي في استعادة معركة اقتحام الحرم المكي في العام 1979 من القرن الماضي، إثر احتلاله من مجموعة راديكالية بقيادة جهيمان العتيبي، زعمت أن أحدهم هو “المهدي المنتظر” الذي تؤمن معظم الطوائف الإسلامية بأنه سيخرج ضمن علامات القيامة، ليملأ الأرض عدلاً.
ومع أن نصيب حادثة الاقتحام محدوداً (ثلاث حلقات) من أصل حلقات المسلسل الثلاثين، إلا أن وعْد المنتجين قبل بداية رمضان بمعالجة الحادثة، كان بين أكثر الجوانب إثارة لشهية الجمهور الذي تفاعل مع الموضوع من كل زواياه، فامتلأت صفحات شبكة التواصل الاجتماعي بأوسمة الشهداء والمشاركين في المعركة، وذكريات شهود اللحظة عن قرب أو بعد، وأغنوا المشهد بقصص وصور ما كانت دراما “العاصوف” تهتم بها أو حتى قادرة على التقاطها بين أرجاء المملكة المترامية.
لكن التفاعل الذي أثار فضول المهتمين أكثر، ظهر من خلال مشاركة صور ثلاثة من أبناء قائد المجموعة جهيمان العتيبي، وهم ما بين عميد في الحرس الوطني السعودي ومهندس في الاتصالات حامل لشهادة الدكتوراه وثالث موظف مرموق في عقر دار بيت الحكم في إمارة الرياض، بمباركة من العاهل السعودي الحالي الملك سلمان بن عبدالعزيز عندما كان أميراً للرياض قبل سنوات مضت.
وبينما تحدث عدد من المعلقين عما يعنيه احتواء أبناء جهيمان من سجايا المجتمع السعودي الذي يتخذ من قاعدة “لا تزر وازرة وزر أخرى” شعاراً له دولة وشعباً، استغرق آخرون في قراءة مغزى التفاصيل المحيطة بالحادثة. وهكذا اعتبر الناقد اللبناني نديم قطيش صور”أبناء جهيمان العتيبي، دليلاً آخر على متانة النظام السياسي والاجتماعي السعودي”، فيما علّق أحد “السنابيين” السعوديين بأن الأمر لا يقتصر فقط على أبنائه، ولكن أيضاً من تربطهم به علاقة وطيدة من ذوي رحمة، أمثال شاعر الحرس الوطني الأشهر في السعودية خلف بن هذال العتيبي، إذ اتضح أن أخته كانت زوجة جهيمان، ولم يزل على الرغم من ذلك يترقى حتى وصل رتبة اللواء.
المشرف على العمل ناصر القصبي قال في حديث تلفزيوني بعد بث الحلقات إن تحديات كثيرة واجهت القائمين على العمل، بينها اختيار شخصية جهيمان والمدرعة التي اقتحمت الحرم، وهي التي تعود إلى عقود مضت ولم يجدوها إلا في بريطانيا، واستغرق استيرادها جهداً كبيراً. أما شخصية جهيمان، فعندما وجدوا ممثلاً يُعتبر نسخة منه شكلاً، لم يقنعهم أداؤه الذي ظهر متواضعاً لا يتناسب مع شخصية جهيمان الحازمة والكاريزماتية، فجرى استبداله بالشخصية الحالية التي لاقت استحساناً كبيراً. وتحدث عن مبنى الحرم أيضاً، وذكر أن إنشاءه في دبي استغرق أشهراً.
سياسة “إنه ليس من أهلك”!
لكن بالعودة إلى حالات مشابهة، فإن باحثين سعوديين وأجانب وثّقوا صوراً في القديم والحديث، ظلت فيها السلطات السعودية تستخدم سياسة “إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح”، بفصلها بين ماضي الأشخاص وحاضرهم، فاحتوت أبناء خارجين عن القانون، وصفحت عن مناوئين لها عندما اختاروا تغيير مسارهم.
ودوّن الباحث السعودي الدكتور عبدالعزيز الثنيان، عدداً من القصص في هذا السياق لمؤسس الدولة السعودية الملك عبدالعزيز، كان أغربها ثقته بابن غريمه سليمان بن عجلان حتى جعله من حرسه ورجاله المقربين، مع أنه أي عبدالعزيز قتل والد ذلك الحارس في مواجهة حصن المصمك، لدى استعادته الرياض. ولا يزال النهج نفسه مثلاً يسري عليه الملوك السعوديون في تقدير المحلل السياسي محمد آل الشيخ، الذي كشف أخيراً أن ابنة سعد الفقيه ألد أعداء السعودية المعارضين حتى اليوم، أكرمت السلطة السياسية وقادتها ومكّنتها من حقوقها الوطنية من دون أن تأخذها بوزر أبيها. ومثل ذلك، عائلة زعيم تنظيم القاعدة السابق أسامة بن لادن.
إلى ذلك، لم يتوقف اهتمام السعوديين بزوايا اقتحام الحرم عند هذه الجزئية، ولكن تجاوزها إلى الربط بينها وبين الأحداث الراهنة التي تعيشها المملكة، سواء في محاربة التطرف الديني الذي كان الحامل لجماعة جهيمان على فعلتها، أو باستدعاء بطولات الجنود السعوديين الذين استُشهد منهم في الموقعة العشرات نتيجة التحصين الشديد للحرم واحتماء المجموعة المتطرفة بزوار المسجد من الأبرياء، فلفت حساب “أخبار القوات المسلحة” على “تويتر” إلى أن كتيبة في الجيش السعودي أصبح اسمها بعد الحادثة كتيبة 85، تيمّناً بالشهداء المظليين الذين قُتلوا يومئذ، ولا تزال تلك الفرقة تؤدي مهمتها إلى اليوم في كل المواجهات العسكرية الصعبة جنوب المملكة ضد الحوثيين، ويتفاءل بوجودها رجال القوات المسلحة.
ولدى دخول القراء العرب في سجال الحادثة ومزايداتها، استدعت المغردة السعودية رنا القويز الحالات المشابهة التي حصلت ذلك العهد في دول عربية، وكيف تعاملت معها، مقارنة بالطريقة التي عالجت بها بلادها الموقف، لافتةً إلى سجن ملك المغرب الحسن الثاني عائلة أوفقير في عقوبة جماعية، قبل أن يأتي ابنه ملك المغرب الحالي ويعيد الاعتبار إلى الأسرة، ويكفّر عن سيئات “سنوات الرصاص”، كما يُطلق عليها المغاربة.
الباحث السعودي بدر العامر استدعى أيضاً ذكرياته مع ما سماه “فتنة جهيمان”، إذ كان والده كما يروي واحداً من المقربين عند مجموعة جهيمان، يعيش في مدينة حائل شمال شرقي السعودية معقل بعض أفراد الجماعة، لكنه نبذهم عندما استيقن أنهم عازمون على تنفيذ خطتهم نحو تصديق إمامة أحد منهم للمسلمين، باعتباره “المهدي المنتظر” بناء على منامات ورؤى تواطؤوا عليها، مما دفع والده الراحل إلى مكاتبة السلطات الدينية في البلاد بذلك، إلا أن أحداً لم يكن يتخيل أن طموح جهيمان ومجموعته ستفضي بهم إلى الجريمة التي ارتكبوا.
أبناء فكر جهيمان على النقيض!
ولئن كان أبناء جهيمان من صلبه، اتخذوا طريقاً على النقيض من والدهم وانحازوا إلى محيطهم ومجتمعهم، فإن أبناءً له آخرين في الفكر، اتجهوا لتطوير فكرته والبحث لها عن تأويل أشد وأخطر مما كان جهيمان نفسه يعتقد، فيذهب العامر إلى أن “العقلية التي كانت تستحكم على جماعة جهيمان ساهمت في صناعة تيار جديد أشد خطورة وفتكاً (الجهادي)، فأبو محمد المقدسي منظّر القاعدة الشهير والتكفيري المعروف كان من ضمن من صاحب جهيمان وتأثر فيه، ثم زاد عليه غلواً حتى كان ينكر عليه تساهله في موقفه من تكفير الدولة”.
قبل أن تعيد الدراما السعودية حادثة الحرم إلى التداول، كانت التفجيرات الإرهابية التي حدثت في بداية الألفية الثالثة في مدن سعودية عدة، دفعت الباحثين إلى التنقيب عن أسباب أكثر وجاهة لاستهداف السعوديين مواطنيهم بالمتفجرات، بينما كانوا في عقود خلت يقاتلون خارج وطنهم، باعتبارهم مجاهدين يناصرون إخوتهم المسلمين ضد القوى المعادية لملتهم، غير أن تفجيرات الرياض في 2003 كشفت أن جهيمان قد عاد بنسخ أكثر ضغينة، مما أغرى باحثين سعوديين وغربيين باقتفاء أثر الرجل، وتفكيك نظريته في العنف بمعزل عن زاوية “المهدي المنتظر” التي في تقدير بعض الباحثين غطاء لمآربه السياسية، بدليل أن جهيمان ظل يقاتل حتى بعد انكشاف زيف نظرية المهدي بموته، وأيضاً الرسائل التي كان يملي ويوزع، وهي التي يحاول من خلالها تبرير ما هو بصدد القيام به، وتبجيل “إخوان من طاع الله” الذين خرجوا على الدولة السعودية زمن الملك عبدالعزيز.
ماذا بقي من إرث جهيمان؟
“حتى لا يعود جهيمان” الذي أثار مجرد محاكاة فعلته درامياً، فزع السعوديين، يرى باحثان غربيان أخرجا كتاباً بهذا الاسم، أن الظن بأن جهيمان ذهب إلى غير رجعة كان اعتقاداً ساد يوم تنفيذ حكم الإعدام في حقه والمجموعة التي معه، إلا أن الأحداث التي جاءت بعد ذلك كشفت العكس، كما قال العامر آنفاً، وهو المتخصص في محاورة المتطرفين السعوديين، المتأثرين بفكر جهيمان والقاعدة.
أما الكاتبان، فيقولان عند الحديث عن إرث جهيمان “هناك شواهد عديدة على أن ذكرى جهيمان حُفظت وبقيت حية في بعض دوائر الإسلاميين حتى اليوم، وإن أيدولوجيته ألهمت محاولات دورية لإحياء حركته، والشخص الأكثر أهمية من خلفاء جهيمان فكرياً هو أبو محمد المقدسي الأردني من أصل فلسطيني… كتابات المقدسي كانت متأثرة بشدة بأيدولوجية جهيمان، واحتوت على العديد من الإشارات إليه، ولكن المقدسي كان أكثر راديكالية وتطرفاً من جهيمان في العديد من القضايا، ولعل أكثرها أهمية أن المقدسي لم يتردد مطلقاً في تكفير الحكام المسلمين”.
وخلص الباحثان إلى أن ما يتردد عن اختلاف نهج جهيمان مع الجهاديين، لم يعد له قيمة، إذ بدأ الطرفان الجهاديون و”الرفضيون” أي الرافضين للدولة مثل جماعة جهيمان، يؤثر كلٌّ منهما في الآخر.
ولا ينسى مترجم الكتاب الباحث المغربي حمد العيسى أن يدلي بالقول “خلاصة قراءتي لهذه الحادثة الأليمة هي أنها “ربما” لم تكن لتقع لولا استسهال الاجتهاد المباشر من الكتاب والسنة من بعض الجهلة مثل جهيمان ورفاقه، وهي للأسف ظاهرة انتشرت بدعوى نبذ التقليد… إذ امتلأت المكتبات بكتب الجرح والتعديل التي تسابق في شرائها الأمّيون والجهلة باسم الاجتهاد المباشر ومعرفة الدليل من الكتاب والسنة”.
يذكر أن جهيمان العتيبي، هو جندي سعودي في أحد قطاعات الجيش السعودي (الحرس الوطني)، قيل إنه سائق شاحنة، إلا أنه ترك العمل لسبب أو آخر، وبدأ بنشاط علمي فكري، انتهى به إلى تشكيل جماعة راديكالية من جنسيات مختلفة، أقنعها بأن زوج أخته محمد القحطاني (من أصل هاشمي) هو “المهدي المنتظر”، استناداً إلى منامات رآها عدد من المجموعة. واتفقوا إثر ذلك على اقتحام الحرم المكي باعتبار الآثار المروية عن المهدي تفيد بأنه يبايع له بين البيت والمقام. وكانت ثقتهم بأن الجيش القادم لمواجهتهم وفق الآثار الغيبية سيُخسف به، ولن يتمكن من دحرهم. انتهت المعركة آخر 1979 بتحرير الحرم ومقتل معظم الجماعة أثناء المواجهات وإعدام الباقين بعد إخضاعهم للمحاكمة بمن فيهم جهيمان. ويتردد أنهم كانوا متأثرين بثورة الخميني التي حدثت قبل ذلك بأشهر، على سبيل التنافس
” اندبندنت “