العصفورية بعقول البغال – د. عصمت حوسو – الأردن
العالم الآن – في وصف (الغوغائيين) قال شاعر الرسول عليه الصلاة والسلام “حسّان بن ثابت” هذا البيت الجميل:( لا بأس بالقوم من طولٍ ومن عظمٍ، جسمُ البغال وأحلامُ العصافير)، وكلمة أحلام في هذا البيت تعني “عقول”؛ لأن العقل يضبط المرء، فيكون كالبعير المعقول لا يتحرك من مكانه.
وهل أجمل من هذا الوصف للعُتاه، مدّعي الفهم بكل شيء وهم أصغر من الأطفال عمرًا بعقولهم؟! وهل هناك أقبح ممن يحملون جسم البغل من عرضٍ وطول وهم فاقدين للعقول؟!
ما أقربنا اليوم بشدة إلى هذا الوصف الذي باح به القائل منذ قرون، وما زال يصلح في العصر الحديث، كيف لا ولا يليق غيره لوصف لصوص الأوطان، وناهبي ثرواته، وسالبي خيراته، وقاتلي أحلام شبابه، أولئك المتشدّقون (بالوطنية)، هل هناك من “مخلّص” ينقذنا من شرور هؤلاء الذين عاثوا بالأوطان فسادًا وإفسادًا ؟! ويا معتصماه….
أولئك “المنافيخ” على فاشوش كُثُر جدًا، ومن واجبنا تعريتهم والتهكّم عليهم حاليًا كما استهزأ بهم الشاعر العربي حسان بن ثابت قديمًا، عندما هجى قومه وذمّهم بتشبيه عقولهم بعقول العصافير، كناية عن (ضعفهم) وسفههم، وعلى الرغم من التشابه الكبير في التركيب الدماغي بين الإنسان والطير، ولكن الفارق في الحجم!! وهيهات..
يلوح في أفق الواقع حاليًا ودهاليز المواقع متلاطمة الأمواج (بغال) كثيرة بأبواق فارغة، ورغم “أحلامها” العصفورية، إلاّ أنها من تقود المجتمع وتحشد الرأي العام بعد بزوغ فجر هذا العالم الأزرق، وسهّلت تلك الطفرة التقنية في شبكة التواصل الاجتماعية “المهمّة” لهم؛ لنشر عفنهم الفكري و تبلّد مشاعرهم ورداءة أقوالهم وأفعالهم، هذا التطور الحضاري التقني لا يليق بهم ولا بأحلامهم-أي بعقولهم- البتّة؛ لأن هؤلاء هم من حالوا دون تبلور (الشارع العربي) أن يكون “فاعلاً” ومؤثرًا، وأبقوه (مفعولاً به ومفعولاً فيه ومفعولاً عليه ثم مفعولاً معه)، للأسف الشديد..
الأحقاد المشحونة بشحّ الداخل وإغراء الخارج، وبشتّى أنواعها، سواء الكامنة منها أو الظاهرة على الملأ، تتوالى علينا بتسارع مرعب، الأمر الذي توّهنا جميعًا وتاهت معنا “الحقيقة”، فلم نعد نميّز الصادق من الكاذب، الوطني من الخائن، كيف بإمكاننا التمييز ونحن نرى السباق بين الجميع على من هو أكثر وطنية من الآخر؟!
كيف نعرف الصالح من الطالح منهم ونحن نسمع عبارات التمجيد تارة، وتارة أخرى عبارات الطعن والانتقاص من الآخر؟!
لا تُقاس (الوطنية) بنشاطها الزائد على صفحات التواصل الاجتماعي، أو الثرثرة على الفضائيات وتلميع الذات، ولا الكتابة “المأجورة” من قِبَل كتّاب التدخل السريع الطارئين، كل ذلك لا يمكن أن يرقى أبدًا لمستوى جلال “المشهد العربي” الحالي ولا خصوصية الموقف الوطني الخاوي، وعدم المشاركة بتلك “الثرثرة الغوغائية” ونشر الأفكار (الإلحاحية) لا تعني أن الباقي أقلّ وطنية..
وهنا نتساءل دومًا، إذا قرّر فجأة “مارك زوكربيرج” على سبيل المثال إغلاق اختراعه (الفيسبوكي)، فكيف سيحرر هؤلاء الغوغائيون فلسطين إذًا ؟؟!! أليست الوطنية اليوم تعني للقطيع الذي يمشي وراء مثل هؤلاء- وهم الأغلبية- هي السخرية والانتقاد وإطالة اللسان وإثارة الفتن والأحقاد واغتيال الشخصية في صفحات العالم الأزرق؟!
هل مغازلة المسؤولين أو انتقادهم يكون على حساب (الحقيقة) وعلى حساب الوطن؟! لمصلحة مَنْ تمّ تحريف البوصلة وحرفها، وتشويه العقل الجمعي، وتزييف الوعي، وتسطيح الوطنية؟؟!!
اعتقد أنه من واجبنا جميعًا اليوم ( رصد ) الآراء والمواقف لما قبل وما بعد أي تحوّل أو تغيّر نشهده، لردع كل من تسوّل له نفسه بفعل ما يروق له دون مراعاة لسمعة وكرامة الآخرين، حتى نضمن عدم “التجاوز” في أقل تقدير، وحتى نستطيع أن نرصد (التلوّن) في المواقف الموشّحة بجميع ألوان قوس قزح حسب المصالح الشخصية الضيقة، على حساب مصالح الوطن ومواطنيه..
ونقول الآن وليس غدًا لأجساد البغال وأحلام العصافير، مدّعي الوطنية (الشوفينية) المتغطرسة، ذات المعتقدات المغالية والمتعالية، التي تتعامل بعنجهية عند الاختلاف مع الآخر وسرعان ما يتحول لخلاف مفتون، نقول لهم جميعًا، في الواقع والمواقع، أنّ قدر الإنسان وقيمته بأفعاله لا بأقواله، وأنّ حبّ الوطن يكون في “الشدّة” قبل الرخاء، والمواطن (الحقيقي) الذي يضرب جذور محبته في جوف وطنه هو الذي يحرص عليه ويرتقي به، ويرفع أسهم الوطن ليحلّق به عاليًا في كبد السماء، ويبعد كلّ البُعد عما يُظهر وطنه بصورة قبيحة تحطّ من شأنه ولا تمثّل الجوهر الحقيقي للوطن ومواطنيه.
ليس عيبًا على الإطلاق المطالبة بالحقوق ومحاربة الفساد والمناداة بالعدالة، بل (العيب) هو عندما تمسي تلك الحقوق والمطالب بمثابة “الجسر” المهترىء للانقضاض على الوطن وتشويهه لمصالح ضيقة الأفق، هذا هو مكمن التمييز بين الحق والباطل، ولا يميّز ذلك سوى الإنسان ذو العقل الكبير لا بأحلام العصافير.
الوطن اليوم، “العربي”، الكبير أو الصغير، لا فرق، بحاجة إلى وطنية (عقلانية)، لا “شعاراتية” كتلك التي يرفعها البعض لغوًا للتمويه والخداع لا أكثر، والوطن الذي نرنو له من يحتوي الجميع بدرجة واحدة دون فرق بين مواطنيه، ويكون الانتماء للمصالح (المشتركة) المبنية على تاريخ مشترك، فقط..
انزعوا عباءة الوطنية “المفتوقة” عن أجسام البغال إلى أن ترتقي عقولهم عن أحلام العصافير، ربما نستطيع بذلك رتق الفتق الوطني الذي شقّوه، واستروا عورات الوطن.
ومن السخرية والعار كذلك، ترك الحصان وحيدًا في ساحات الوغى، وأخذ موقف المتفرج الشامت، والتعامل بعقلية (المزاد) لمن يكسب أكثر، كما يفعل القنّاصون والمزاودون والردّاحون حاليًا، وتذكروا أن أمن الوطن (الكبير) ومواطنيه فوق الجميع، وسيادته سيادة للجميع.
والمرساة الخفيّة الراسخة التي تربط سفينة عواطفنا بمراسي أرض الوطن؛ هي حبّ الوطن الحقيقي لا التشبيحي، والانتماء الفعلي له، وغير ذلك هو محض خرافة..
وبالمناسبة، البغال العصفورية من الجنسين، منتشرون حولنا في كل مكان؛ في المنزل، وفي العمل، وفي العائلة، وفي الشارع، والأكثرية خلف الشاشات، بعضهم مفروضين علينا ولا نستطيع الخلاص منهم، والبعض الآخر من اختياراتنا “الفاشلة”، ولكن، البغال الأخيرة هي (خيار)، والخلاص منهم أسهل؛ لأنه لا يحتاج سوى (لقرار)، فلا تسمحوا لهم بتسميم حياتكم، تخلصوا منهم سريعًا، ونظفوا أرواحكم واحموا عقولكم من فخّ الوقوع في (عصفوريتهم)..
وأخيرًا، أختم بكلام الله تعالى لمن وصفناهنم هنا أعلاه، فقال في كتابه الكريم:
(أم تأمُرُهم أحلامُهُم بهذا أم هم قومٌ طاغون)
صدق الله العظيم..
للبغال والعصفورية قصة أخرى وبقية…دمتم…
دة.عصمت حوسو