ليبيا، الإسلام السياسي والرعبقراطيّة – صلاح انقاب – ليبيا

0 1٬120

العالم الآن – الديمقراطيّة عمليةٌ أساسها التجربة، ولا يمكن أن تحدث مصادفةً في أي مكانٍ وعند أيّ شعبٍ كان، فهي في اوروبا حيث منبع الدولة الحديثة مع نهاية عصر التنوير، ومسرح الحروب العالميّة التي تسببت في فقدان الثقة بين الشعوب وتكريس فكرة الدولة الوطنيّة – نتجت بعدمخاض أحداث حراكٍ سياسيٍ، إجتماعيٍّ ودينيٍّ متوازية، الأمر الذي أوصل الى نتيجة تفعيل قيم المواطنة وعلمانيّة الدولة قبل أن يتم تطبيق الديمقراطية نفسها كأمرٍ واقعٍ وبديهيّةٍ من بديهيات هذه المجتمعات، بالإضافة الى عاملٍ مهمٍ آخر، ألا وهو العامل الإقتصادي، حث تكونت فكرة رأس المال وخروج اوروبا من مرحلة الإقطاع، ليصبح المجتمعشريكاً في القرار السياسيٍّ بفضل فاعليّة النظام الضريبي الذي جعل الإنسان الأوربي مهتما بسياسات الدولة كونها أصبحت تؤثر تأثيراً مباشراً على نمطه المعيشي نفسه.

لكن ما حدث في شمال إفريقيا هو شيءٌ آخر ، وتحديداً في ليبيا، والتي منذ تأسيسها لم تكن دولةً زراعية أو صناعيّةُ، لم تحدث فيها ثورةٌ ضد المدرسة الدينيّة الكلاسيكيّة الوافدة أصلاً والتي كانت ولا زالت سنداً للإستبداد، ومع استفحال أعراض ” المرض الهولندي “،والذي تسبب في انهيار تامٍ لكل إقتصادٍ موازي لإعتماد الدولة بالكاملعلى عائدات النفط وتحوّل المواطنين جميعاً الى موظفيّن لا يعملون شيئاً سوى الذهاب متأخرين الى أماكن عملّهم في أفضل الأحيان، وهو أمر لم يحدث في أي بلد آحر خلاف كوريا الشماليّة ربما، حيث احصائياً تمتلك ليبيا حوالي مليون ونصف موظفٍ، هم تماماً إجمالي عدد المواطنين القادرين على العمل أصلاً.

بعد استقلال ليبيا سنة 1952 والتي تكونت تكوّنا طبيعيّاً في حقيقة الأمر، وكانت أول دولة تنال استقلالها عبر استفتاء للأمم المتحدة سنة 1949، وفي أول انتخابات في التاسع عشر من فبراير سنة 1952 سقط عشرة قتلى بسبب أعمال الشغب التي لحقت اعلان النتائج، واتهام المتظاهرين وقتها لأجهزة الدولة بتزوير النتائج، الأمر الذي ادى الى قمع العمل الديمقراطي نفسه، عبر نفي رئيس حزب المؤتمر الوطني “بشير السعداوي” الى مصر في البداية، قبل إعلان تجريم الحزبيّة نفسها، وهذه كان المرة الأولى.

وبعد انقلاب أو ثورة الفاتح من سبتمبر، على اختلاف التعريف بين الطوائف الليبيّة المتناحرة اليوم، صدر الكتاب الأخضر، والذي كتبه ” معمر القذافي” ويعلن فيه صراحة تخوين الحزبيّة عبر مقولته المشهورة أنّ : … من تحزّب خان، و أن : … الحزبية إجهاض للديمقراطيّة، لتعيش ليبيا فترة خمس عقودٍ تقريباً بدون حراكٍ سياسيّ حقيقيّ، وبقيت الأحزاب الليبية على قلّتها وخجل نشاطها في المهجر، كحركات معارضةٍ هامشيّةٍ وغير فعّالةٍ ، لتصبح الحزبيّة جريمةً يعاقب عليها النظام الحاكم، وتتكون ما يشبه حالة الفوبيا من العمل الحزبي برمته لدى الليبيّن الذين انسحب كلّ منهم خطوات الى الوراء وأصبح الإنتماء القبلي أو الجهوي أو كلاهما هو ما يحدد خيارات المواطن وردّات فعله، بل أحياناً كان الإنتماء لتشجيع فريق كرة قدمٍ هو ما يشغل بال المواطن الليبي.

وكملخص للسيناريو الليبي المعقد بعد إسقاط الناتو للزعيم الليبي، وبدأ الحرب الأهليّة الليبيّة عدّة مراتٍ في أقل من عشرة سنوات، استقبل الليبيّون العمل السياسي بفرحٍ، وتكوّنت الأحزاب السياسيّة التي شاركت في أول انتخاباتٍ المؤتمر الوطني العام في السابع من يوليو سنة 2012، والتي شاركت فيها أحزاب بدون مشاريع، بدون إعلان نوايا، وبدون دستور أيضاً، وهنا بدات الكارثة.

الأزمة لم تبدأ مع رفض المؤتمر الوطني بسبب حجةٍ قانونيّةٍ لا يهتم الليبيّيون بفهمها، بل لا يمكن لمعظمهم ذلك ربّما – رفض تسليم السلطة للبرلمان الليبي الذي تم انتخابه أيضاً وبذات الطريقة وتحت نفس الظروف في الخامس عشر من يونيو سنة 2014، بل أن استيراد الديمقراطيّة كوجبةٍ جاهزةٍ انتج شيئاً آخر، حيث مع تحول المدن الليبيّة الى دويلات مجيّشة، وفقدان الدولة معناها الرئيسي ألا هو إحتكار استعمال القوة، تشكلت في ليبيا ظاهرةٌ سياسيّةٌ فريدةٌ من نوعها أطلقت عليها اسم ” الرعبقراطيّة” .

حيث كان حزب الإخوان المسلمين، الحزب الوحيد الذي يمتلك مشروعا ودستوراً داخلياّ ضمن الأحزاب الليبيّة حديثة النشوء، هشة التصنيع، والتي كانت قابلةً للكسر، واستغل هذا الحزب – كما استغل سواه من الحركات السياسيّة ذات المرجعيّة القبليّة والجويّة أيضاً– فوضى انتشار السلاح، وأصبح الهجوم على مقار اجتماع المؤتمر الوطني هواية تمارسها ميليشات الإسلام السياسي المؤدلجة، وهو أمرٌ حدث على امتداد سنتين 257 مرة, تارة لفرض قانون العزل السياسي، واختطاف رئيسه، ولأجل الصراع على مناطق نفوذ المدن ” الغازية ” لطرابلس داخل طرابلس نفسها تارةً أخرى، فكان توقيع قرارات المؤتمر الوطني يتم بإمضاء أصوات الرصاص وصراخ الثوار العالمي داخل قاعاته، والتي كلّفت طرابلس في أحداث غرور يوم الخامس عشر من نوفمبر سنة 2013 سبعة وأربعين قتيلاً من المتظاهرين العزل، من قبل الميليشيات المسلحة والتي كانو ينادون بوجوب خروجها من العاصمة.

واستمر الأمر مع فرار البرلمان الليبي المنتخب الى طبرق، وبقاء أكثر من ثلث أعضائه في طرابلس يخفافون الذهاب الى برقة، حيث أعلن هؤلاء أن معالم دولةٍ عسكريّة بدأت بالتكوّن ، لكن الرعبقراطيّة لم تحدث في ليبيا أيضا حينها، بل قبل انتخاب المؤتمر الوطني نفسه، ففي سيناريوهات انتخاب أعضائه كان موجه الإختيار لدى الليبيّين لا شيء آخر سوى الرعب نفسه، فعلى سبيل المثال كان الرعب من سطوة القبيلة مبرر جلوس أعيان مدينةّ من مدن المنتصف في ” مربوعةٍ ” بعدد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة أو يدين ربّما، لإختيار المرشح المنتصر قبل بدء الإنتخابات نفسها، وفي واقعةٍ أخرى كان الرعب أيضاً المبرر الوحيد الذي دفع سكان غرب العاصمة من الناطقين بالأمازيغيّة نحو اختيار مرشحٍ إخوانيٍ، رّشّح نفسه بصفة المستقل، لا يعرف أحدُ ولا يهتم أيضا بكونه ينتمي للحزب صاحب الأيديولوجيا عابرة الحدود، فقط لأنه يتحدث الأمازيغيّة، بسبب حالة الرهاب التي لازمتهم منذ ناصرية القذافي، واستمر الأمر مع انتخاب البرلمان أيضاً، والذي وبسبب الرعب أيضاً لم يشارك في انتخابه سوى 18 % من عدد الناخبين مقارنة بنسبة 60 % في الانتخابات السابقة، لتكون القصّة برمّتها مسلسلاً من مسلسلات الرعب إذا صح التعبير.

فقبيل انتخابات البرلمان واثنائها، سقط خمسة قتلى في مدية بنغازي بعد هجوم لمسلحين ( إسلاميين ) على مقار انتخابات، وبدأت عمليّات تصفيّة لمجموعةٍ من الحقوقيّين، أصحاب الرأي والناشطين السياسيّين والذي كان معظمهم من أصحاب الميول الليبيراليّة، كعبد السلام المسماري، سلوى بو قعيقيص، ، توفيق أبو السعود، سامي الكوافي، مفتاح بوزيد و آخرين تطول بهم القائمة، الأمر الذي دعى الأمم المتحدى لإصدار القرار رقم 2147 الذي يوسع دائرة العقوبات الدولية الحالية المفروضة على ليبيا بحيث تشمل الأشخاص الذين يمارسون أو يؤيدون أفعالاً من شأنها “تهديد السلام أو الاستقرار أو الأمن في ليبيا، أو عرقلة أو تقويض استكمال انتقالها السياسي بنجاح حسب تغبير القرار نفسه ، والتي لحقت سنة اغتيالاتٍ كاملةٍ في بنغازي في 2013 حيث تم اغتيال 120 شخص من سياسيّين ونشطاء مدنيّين وعسكريّين أيضاً.

ليستمر مسلسل الرعب الليّبي، والذي لم يثر إهتمام الغرب كاملاً، والذي كان مهتماّ بالشأن الليبيّ بحجة حماية المدنيّين سنة 2011 بعد خطاب القذافي الذي وصفته المستشارة الألمانية أنجلا ميركل مثلاً، أنه : .. خطابٌ مرعب، لكن هذا الرعب أصيح بعد سقوط نظام القذافي، الفريد من نوعه ديمقراطيّاً، وتتكون لأول مرةً في تاريخ البشريّة الحديث، دولةٌ ترسخ تحت سطوة بنادق المجانين، وتمارس فيها الديمقراطيّة كمزيجٍ قاتلٍ وسامٍ بين البدوقراطيّة والمنتج الليبي الجديد،” الرعبقراطية ” .

رابط مختصر:
مقالات ذات الصلة

اترك رد