نصفُ حضورٍ و خيبةٌ كاملة – سناء هلال – سوريا
العالم الآن – أريدُ ان أكتبَ شيئاُ ما….شيئاً واحداً فقط….
ليسَ عن وصفاتِ الحنين مسبَقةِ الصّنعِ أو عنِ العواطفِ منتهيةِ الصّلاحيّةِ..!
ليسَ فكرةً حاذقةً عن الحربِ أو فذلكاتِ الفُرقاءِ في مطالعاتِ الصّباح..!
ليسَ عنِ الموتِ الاعتباطيِّ أو عن الياسمينِ الدّمشقيِّ أو عن صحوةِ الضّمائرِ..!
أريدُ أن اكتبَ شيئاً ما بعيداً عن كلِّ هذا ..
لكنِّي كيفما شرَّعتُ قلمي ، وهممْتُ أنْ أسرِّحَ فكرتي
امتقعَ وجهُ الأوراقِ و انكفأتِ الكلمات…
كنتُ سأكتبُ عنِ الأساطيرِ ، لو أنَّ فِينيقاً سوريّاً واحداً ، واحداً فقط ، استطاعَ أن ينهضَ من تحتِ رمادِ الطّغيانِ…
ثمَّ فكرتُ مليَّاً… ماذا لو أنَّه تملْملَ و نهضَ فوجّد تلكَ الرّاياتِ السّوداءَ و اللّحى الكثَّةَ تجزُّ الأعناقَ على رؤوسِ الأشهاد ؟
ماذا عساهُ لو شاهدَ بأمِّ عينِه توليفةَ المجاهدينَ و المعارضينَ و الموالينَ و الرّماديّينَ المتلوِّنينَ ، و قد صدَّعَتْ رأسَهُ و زعزعَتْ يقينَهُ جَوقةُ الإعلاميِّينَ و المتشَدِّقينَ ، ثمَّ عاصرَ ردحاً من الزّمنِ تجَّارَ السّلاحِ و مُحدَثي النّعمةِ و مهوِّدي الدّاخلِ و منظِّري الخارجِ و ألفَ فصيلٍ و عميل؟
ثم وجدَ منْتظِريهِ و منظِّري تحقُّقِهِ من أُُولي الفكرِ ( من تقدُّميِّين و عقائديِّينَ و عروبيِّين) قد أحرقوا كتبَهُم و تنكَّروا لفكرِهِم عن النِّضال و الحريَّة و العدالة ِ، وخفتَتْ أصواتُهم ، و انسَدحَتْ و غارَتْ ثوابتُهُم عن القضيَّة ووحدةِ المصيرِ ، و انقلبوا جميعاً لذرِّ الرَّماد في العيون ، ( و تعويضِ المغلوبِ بالبركةِ ) و تمتْرسوا زرافاتٍ في طوائفَ و عمائمَ و قبائلَ ، ووُحداناً في نرجسيَّاتِهِم و مكاسبِهِِم و كراسيهِم..
ثم اسْتبشرَ خيراً بالشّعراء ( أنبياءِ الكلامِ و سفراءِ البشريّةِ)، فوجدَهُم غارقينَ في شِلَلِيّاتِهِم ومهاتراتِهِم (بينَ شعرٍ و نثرٍ ، عموديٍّ و حرٍّ ) ، منصرفَينَ إلى سحبِ البساطِ من تحتِ أقدامِ أقرانِهِم ، لاهثينَ نحوَ الشّهرةِ ، متناسِينَ رسالتَهم ، مدَّاحينَ لسادتِهم ، جلُّهُم فئويُّونَ عالقونَ في طوطَمِهِم ، يشحذونَ سيوفَهُم متكئُّين على الماضي ، و يمثِّلون بودائعِ أسلافِهِم.
و يا للهولِ لو أن فينيقَنا المخذولَ هذا وجدَ الجماهيرَ البائسةَ الحالمةَ (مِمَّن كانوا ينامونَ على الطَّوى بانتظارِ قيامتهِ الموعودةِ عبرَ خمسينَ عاماً ) ، قد صارتْ في عِدادِ المهجَّرينَ و الموتى و الشّهداءِ ووجَدَ مَنْ تبقّى منهم من الأحياءِ الميِّتينَ يقبعونَ خامِدينَ في جحيمِهِم ( كمن يسْتجيرُ من الرَّمضاءِ بالنَّار).
كنتُ سأكتبُ عنِ الآلهةِ و أجدِّفُ بالسّوريِّ التوّاقِ إلى الحريَّةِ الواهِبِ روحَهُ لأجلِها ، لو أنَّ سِيزيفاً سوريَّاً واحداً ، واحداً فقط ، وصلَ إلى قمَّتِهِ ، سوريّاً بلغَها رافعاً صخرتَهُ على شفيرِ العدمِ و النّدمِ ، حاملاً خُطاهُ و خطاياهُ على دربِ حزنِهِ الجليلِ و نزوحِهِ الطّويل.
كنتُ سأكتبُ عنِ اللّهِ
لو أنَّ كلَّ هذهِ الدّماءِ الطَّازَجةِ أشبعَتْ نهمَهُ و أرضَتْ ساديَّتَهُ !
لو أن واحداً ، واحداً فقط من وكلائِهِ المؤتمنينَ سينقلُ إليهِ رسائلَ الغفرانِ و ابتهالاتِ الثّكالى و اليتامى..!
لكنِّي آثرتُ أن أكتبَ إليهِ مباشرةً…
عن أبناءِ الألمِ ، عنِ الحناجرِ المكْلومةِ على بابِ السّماء المُواربِ لحرِّيةٍ هرِمَتْ قبلَ أن تأتي..
أخبرتُه عن أعمارِنا المباحَةِ ، عن حبلِ مشنقةٍ يتدلّى يوميَّاً من كفِّ السّماءِ ليقتصَّ من أعناقِ الفقراء ،
عن جحيمِ الأرضِ المحروقةِ بشفاعةِ سمائِهِ،
عن رصاصاتٍ غادرةٍ تٌزهقُ أعشاشَ الطّفولةِ و تُريقُ حلمَها…
و سألتُهُ فيمَا سألت :
أهؤلاءِ همْ خصومُكَ يا الله ؟!!
كمْ منَ الوقتِ لتصلَ رسائلُنَا إلى بابِكَ العلِّيِّ !؟
كمْ منْ أيُّوبٍ سوريٍِّ قابضٍ على جمرِهِ !
كمْ منْ مسيحِ سوريٍّ صُلِبَ في مُقتبلِ بِشَارتِهِ !
كمْ منَ الحبرِ يلزمُنا لنتعرَّى من آثامِنا، و كمْ منَ القهرِ لنحتطبَ صدورَنا و نَبلُغَ وعدَ جنَّتِكَ الخضراء !
هلْ كنتَ بحقٍّ تحتاجُ إلى كلِّ هؤلاءِ المريدينَ ، والوكلاءِ المحفوفينَ بكَ ، النّاطقينَ بهتاناً باسمٍكَ ، العابثينَ في سموِّ منزلتِكَ و العرَّابينَ القوّامينَ على إنسانيَّتنا ، المهشِّمينَ لفطرتِِنا و المسافرينَ غيّاً على فُتاتِ مجدِك !َ؟
لكنِّي حمداً لمجدِ الإنسانِ وجدتُ بابَكَ مُوصداً إلا لثلَّةٍ من الدُّعاةِ و المرتزقةِ و المريدينَ.
كنتُ سأكتبُ عن شيءٍ ما..
لكنَّي كتبتُ انتصاراً للقلوبِ المثقوبةِ التي تحتفظُ بألحانِها
كتبتُ عن الضمائرِ النَّازفةِ بصمتٍ أكبرَ و أبلغَ من كلِّ ضوضاءِ الانتصاراتِ و صَخبِ المنابرِ .
سأكتبُ لهمْ و إليهمْ رغماً عن الحياةِ التي تجيءُ إلينا على رؤوسِ أصابعِها بنصفِ حضورٍ و خيبةٍ كاملة..
سأكتبُ طويلاً عنِ الحبِّ و الأغاني وقمحِ الفقراءِ
سأكتبُ عن شيءٍ يشبهُني…
فيما تبقَّى لي من الجحودِ و حفنةٍ من رمادِ الكلمات..