العولمة وهجرة التخلف – صلاح انقاب – ليبيا
العالم الآن – ( لا يوجد أي هدف لهذا النص إلا نشر الرعب في نفوس من يهاب اللغة العربية )، هذه الجملة حملها شخصان يتحدثان العربية في قطار ببرلين، يبحثان عن الشجار مع المارة، هذا هو السبب الوحيد الذي يعلل حمل مثل هذه اللافتة، والتي تعلن أيضاً أشياء أخرى، منها أنهما قادمان من مجتمعٍ يحاول فيه الجميع عض أذنه.
المشكلة تنطلق عبر نقاط يمكن حسابها بأصابع اليد الواحدة، كلها تصب في تجاه أزمة الهوية في مجتمعاتٍ متخلفةٍ تُعلن فيها الحروب الأهلية ليموت نصف الشعب ويفر النصف الآخر دون أن يعرف كلا النصفين أن ما حدث هو حربٌ أهليّةٌ، حدث الأمر في العراق، سوريا وليبيا، والمشترك بين الدول الثلاثة بالإضافة الى أنها متخلفة أنها كانت تحكمها أنظمة شموليّة، قومية، عروبيّة، ينخرها الفساد من إصبع القدم حتى أعلى الرأس، سقطت لأنها فشلت في أن تستوعب العالم في صورته الجديدة، لتترك خلفها شعوباً تحمل صورة مشوّهةً للعالم كونها أصبحت – كما يقول النيهوم – ترى العالم : ( … عبر نظارةٍ متّسخةٍ (.
يقول النيهوم أيضاً : ( … اللعب بالنار لا يجعل النار لعبة)، حيث والعالم يصبح أصغر، أصبحت صورة العالم المتسّخة هذه أصغر من أن يقبلها الكوكب أيضاً، فالعرب والأمازيغ والكرد مثلا، رغم محاولاتهم اليائسة أن يصبح كل منهم شعباً لن يكونوا كذلك ما لم يكن كلٌ منهم يعيش وحيداً فوق الكوكب نفسه، حالهم حال المسلمين الذين لن يكونوا أمّة واحدة مهما استمروا في تكرار الكذبة ذائعة الصيت والتي تقول أن تعدادهم ملياراً ونصف المليار.
اللغة لا تجعل الناطقين بها شعباً ، بل قيم التعايش السلمي هي التي تفعل، كما هو الدين الذي لا يستطيع أن يكوّن هويّة جامعةً يمكن النظر اليها في دفترٍ أحصائيٍّ يحوي أرقاماً يقاس فيه كل شيء بالمسطرة، فالعربية أو الكرديّة أو الأمازيغيّة لغاتٌ وثقافاتٌ لها ظروف انتشارها الموضوعيّة، نفس الظروف التي جعلت غرب أفريقيا فرنسياً، وأمريكا الجنوبيّة ما عدى البرازيل إسبانيةً، وشبه جزيرة الهند، استراليا، وأمريكا الشمالية عدى الكيبيك إنجليزية، لكن مواطنوا ساحل العاج لا يقولون أنهم فرنسيين كما هو حال سكان بوليفيا والذين لا يعلنون حلم توحيد الأمة الإسبانية في اتجاه المكسيك وكاليفورنيا، فاللغة خارج الأيديولوجيا ليست سوى وسيلةٍ للتواصل تكتسبها الشعوب وتفقدها لأسباب لها علاقة بسيرورة تاريخية تجعل التعصّب لها أمراً مضحكاً، ومبكيأّ في ذات الوقت، وهذا نصف الصورة المتسخة الأول، الدفاع عن فكرة كون لغةٍ أفضل من أخرى، شبيه بمحاولة الدفاع عن شخصٍ يؤمن أن واحد زائد واحد تساوي واحد ونصف.
أما النصف الثاني من الصورة المشوّهة هو عندما يتحول الدين الى هويّة، وهذه مشكلة يصعب حلّها عند شعوبٍ ترى أنها لا تمتلك شيئاً سوى هذا الدين، فالتقسيم الساذج للعالم على أساس ديموغرافي الى دول مسملة وأخرى كافرة، أمر يرفضه الإسلام المؤسساتي نفسه ( دون الخوض في حقيقة هذا الإسلام وعلاقته بالتاريخ التي تجعله زائفاّ منذ أنطلقت به المؤسسة الدينية بعيداً عن القرآن نفسه )، فحسب فكرة 73 فرقةٍ والتي منها واحدةٌ ناجيةٌ والتي تجعل ما نسبته 98.7 % من المسلمين البيولوجيين ( كفاراً ) ليسوا مسلمين بما يكفي، دون الحاجة للحديث عن مجموع اللا ادريين أو المتحولين الصامتين داخل هذه الكتلة غير محددة المعالم – والحديث هنا عن كتلة المليار والنصف -، هذا التقسيم بالإضافة الى أن القرآن نفسه ألغى هذه النظرة الطفوليّة للعالم، وانتزع الحق في تقسيم البشر الى صنفين من المؤمنين والكفار، عبر وجود سورة كاملة تحمل إسم ( المنافقن )، يجعل رسم خارطة بيانية لتعداد سكان الكوكب بناء على معتقدات ضمائرهم فكرة مثيرة للسخرية، على الأرض وفي السماء أيضاً.
فعندما ينشر الناشطون ووسائل الإعلام الناطقة بالعربية والموجهّة لأصحاب الصورة المقلوبة للعالم، مقاطع فيديو إعتماد أول وزيرٍ (مسلمٍ) في استراليا كنوع من أنواع الفخر القومي الزائف، متجاهلين حقيقة أنه حاله حال وزير الثقافة في حكومة كاميرون أو رئيسة البرلمان الهولندي، هم في واقع الأمر مواطنون فقط لا غير، وأن معيار إختيارهم لم يضع في الحسبان وفق منطق الدولة الحديثة أصولهم أو أديانهم، هذا الفخر الزائف إختفى عندما استقالت وزيرة التعليم العالي السويدية (المسملة) بعد أن ضبطتها الشرطة وهي تقود سيارةً وهي مخمورةً، لتتهشم الصورة المشوهة أمام حقيقة أن العالم لم يعد ينظر للأمور وفق منطق الإنتماء لجماعة : ( أنصر أخاك ظالماً او مظلوماً )، إلا في نصف الكوكب الذي ترفضه جغرافيا العالم الجديدة.
لقد أفسدت الأيديولوجيا كل شيء فوق الكوكب، كل شيء حتى اللغة والدين ووجود الإنسان المسالم بواسطتهما كادوات للتعايش لا غير، لتصبح مرسوماً للتخلف داخل المجتمعات التي لا تزال تصر على حشر نفسها في جزيرةٍ معزولةٍ تصبح كل يومٍ أصغر، وهي ترفض الفكرة البسيطة كون اللغة (تواصل) وأن الدين (ضمير)، قبل أن يخسر هؤلاء الأرض كلّها، ويحاول الفارون من المجتمعات المتخلفة الهجرة يحملون هويّاتهم الضائعة فوق أكتافهم، ليكون الصدام الذي تفرضه ظروف العولمة وانهيار المفهوم التقليدي للدولة بين اليمين واليمين في شوارع أوروبا، اليمين السلفي واليمين القومي، وكلاهما يحمل صورةً خاطئة للعالم صورةً نصف الكوكب والذي يعيش فيه الجميع كأرنبٍ ميتٍ مفتوح العينين.
هذا الكاتب ، ينتمي لعالم آخر، عملاق من عمالقة الكتابة في ليبيا، لا أعرف كيف لا يعرفه أحد ؟