لا أحد وراء النقاب – صلاح انقاب – ليبيا
العالم الآن – يقول الكاتب الليبي الصادق النيهوم في مقال بعنوان : سر وراء الحجاب ” .. عندما تحتجب المرأة المسلمة آملة أن تفوز برضاء الوعاظ فإنها في الواقع, لاتلبس عباءةً فقط بل تتقمص شخصيةً مستحيلةً أوّل مفاجأة فيها أنّها شخصيةٌلم يخلقها الله. فحجاب المرأة ليس إجراءً دينياً ولم يصبح فريضة لها علاقة بالدين, إلا على يد اليهود خلال الألف الثانية قبل الميلاد “.
يصف النيهوم الحجاب كمنهجٍ تربوّي مكتوبٌ حسب وصفه ” بلغة السحرة “، وهو وصفٌ لطيفٌ في واقع الأمر في حال نقلنا حديثنا هذه المرة عن القاب، فغطاء الشعر تحول مع مرور الزمن في جل المجتمعات التي ترتديه في نسائه الى جزء من ثقافةٍ لا علاقة لها بالدين مقدار علاقتها باستعجال خروج المرأة الى خارج البيت دون الحاجة الى تصفيف الشعر .
وهذه قصة يطول الحديث فيها، فمسألة الربط بين ضمير الفرد وطريقة ارتدائه الملابس قصّةٌ قديمةٌ سنّها المصريون باذئ ذي بدء، عندما حاولت السلطة الدينية تمييز نفسها عن عوام الناس، ليستمر الأمر بشكل لا يمكن تفسيره سوى أن هذه السلطة نجحت في نسخ الفكرة على امتداد سبعة آلاف سنة، ليحيط رجال الدين أتباعهم في دوائر تفصلهم عن الآخرين، وعن الله أيضاً.
النقاب زيٌّ لم يرد ذكره آيات القرآن لا بالصريح أو بالتلميح، بل وحتى الحجاب الذي كانت حجة إلزام المرأة بارتدءه كانت حديثاً منسوباً لعائشة زوجة الرسول تقول فيه أنه : ” ( ... إذا بلغت المرأة برز منها هذا وهذا )، مشيرةً الى الوجه ونصف الساعد “، لكن هذا الحديث اختفى مع اكتساح موجة النقاب كزيّ دينيًّ لا سند له في كل نصوص الشريعة الكلاسيكيّة الإسلاميّة سوى نصًّ واحدٍ في العهد القديم، الثوراة.
المرأة المسحورة ” بلغة النيهوم أيضاً ” سحرت مرتين في شمال إفريقيا، ونقلت سحرها الى أوروبا، حيث يدفع جزائري فاحش الثراء قيمة مخالفات ارتداء المنقبات للنقاب في شوارع باريس في حربٍ الجميع فيها خاسرون، بينما يرتفع الصوت المنادي بمنع ارتداء الحجاب في المدارس الإبتدائية في النمسا وألمانيا، عبر شكل غريبٍ ومضحكٍ من أشكال الجدل الغير مبرّر، فهذه مشكلةٌ مفتعلةٌ على الطرفين، فحجاب المرأة بغض النظر عن حقيقته، هو حجابٌ للمرأة ، لا لأطفال المدارس الإبتدائيّة، كي يكون موضوع الدفاع عن المسألة برمّتها، بحجة انتهاك اوروبا لقيمها الليبيراليّة، أمراً مسيئاً لأهم قيم الإسلام الكلاسيكي المعلنة نفسها، وهي أن الطفل كائنٌ غير مكلّفٌ بأداء العبادات أصلاً، هذا في حال اعتبرنا الحجاب عبادة، أو شيئاً يوصل المرأة الى الله دون حاجةٍ للإستعانة بشعر رأسها.
في تونس تم أعلان قرار بمنع ارتداء النقاب في المدارس، والمعلن أن المبرّر أمنيٌّ محض، وتونس هي الدولة العلمانيّة الوحيدة في شمال إفريقيا، تقريباً، لكن المسألة بمجملها لا علاقة لها بعلمانيّة الدولة أو تدين المرأة أيضاً، إذ هنالك خلطٌ بالغ الخطورة بين مفهوم الحقوق الطبيعيّة في الدولة المدنيّة، ومفهوم التعايش المشترك السابق له عند المدافعين عن النقاب تحت مبرّرات القول بتناقض المجتمعات الليبيرالية وازدواجية تعاملها مع الظواهر الإجتماعيّة المختلفة.
فالنقاب هو جزء من منظومة سلوكٍ أخلاقيّةٍ، اسماها أتباعها “ شريعةً دينيّةّ “، كموجّهٍ لسلوك الفرد تجاه المجتمع وتجاه نفسه أيضاً، وهنا تكمن المشكلة والحل أيضاً، فقبل الحديث عن حق المنقبة في ارتداء النقاب، يجب الحديث قبل ذلك عن حقّها في مشاركة المجتمع المحيط بها شروط الحياة المشتركة، فعند تطبيق نفس المبدأ على جماعةٍ تمثل النقيض مثلاً، ألا وهي جماعة ” العراة ” فإن قبول منطق احترام حق المنقبّة في تغطية وجهها سيكون مشابها للسماح للعراة بالتجول في الشوارع دونما ملابس أمام الناس، ورغم التناقض الواضح بين الصورتين إلا أنهما شيئٌ واحدٌ تقريباً بالنسبة للمجتمع نفسه على الأقل.
الوجه هو علامة الذات ووسيلة التواصل والتعارف الإنسانيّة الأولى، وخروج الشخص بدون وجه أو عارياًأيضاً، هو إعلانٌ بعدم احترامه لشروط التعايش المشترك،واعلانٌ سافرٌ للقطيعة مع المجتمع كلّه، فالعقل البشري مبرمجٌ عبر سلسلة التطور على التعرف تلقائياً على الوجوه، وهي ظاهرةً تعرف باسم ” البارديوليا “، يتعرف عبرها العقل الباطن على أول وأهم نمط مألوف للعقل البشري، ألا وهو الوجه تحديداً، وعبرها رآى الإنسان وجهه على الغيوم، الحائط، الخضراوات بل وحتى على سطح القمر قبل أن ينزل نيل أرمسترونغ فوقه حتى.
إن منع ارتداء النقاب داخل المؤسّسات الرسميّة في تونس اليوم، ليس إعلاناً فاشياً ضد دينٍ بعينه – في حال استثنينا يهود الحريديم، وهم الطائفة الدينية الوحيدة تقريباً فوق الكوكب، من تمتلك في شريعتها نصّاً يلعن المرأة كلّها ووجهها خصوصاً – وليس انتهاكاً لحقٍ من الحقوق الطبيعيّة للمرأة أو الرجل، بل هو إعادة توجيه للمجتمع لقيمته الرئيسيّة والمكون الأساسي له، إلا وهي قبول التعايش المشترك، والتي لا حقوق طبيعيّة لأحد فيه ما لم يتم اعتبار وجه كل شخصٍ ملكاً للجميع، لا لحامله فقط، وفق قاعدة بسيطةٍ مفادها، أنّه يحق لكل شخص معرفة مع من يتحدّث، وهذه مسألةٌ بسيطة ٌ نجح رجال الدين كعادتهم في جعلّها مسألة شديدة التعقيد بشكلٍ مثير للسخرية حقيقةً.
قبل ما يقارب الثلاثين عاماً، اعتبر الصادق النيهوم المرأة المسلمة ” لاجئاً سياسياً ” في مجتمعاتها، وهي اليوم تتحول الى ” معتقلٍ ” يمتلك الجميع حوله مفاتيح سجنه، إلا هو، وهي تقبل مرغمةً شروط حجبها عن المجتمع، بارتداء النقاب والحجاب أبضاً، واعتبارها جزأً من منظومة إستهلاك الرجل، ولا مجال لتحريرها سوى عبر تحرير نفسها، وجهها، وجسدها من أفكارٍ اختزلت هذه النفس، الوجه والجسد في رغبات الرجل نفسه، فالعيش في مجتمعٍ نصف سكانّه بدون أوجه، أمرلا يمكن قبوله، كما لا يمكن قبول قرار النصف الأخر ربما تغطية وجهه أيضاً، ولنتخيل مع بعضنا البعض شعبا يغطي فيه الرجال والنساء وجوههم خلف ستارٍ أسود، ليسيرو الجميع كما الأشباح في الشوارع، كل يضيع أكثر من نصف وقته هرباً من الجميع.
لم أقرأ تحليلا منطقيا أكثر من هذا التحليل . كلام رائع و منطقي جدا .