عن وهم الدولة الدينيّة، نحو اناركيّة الإسلام – صلاح علي إنقاب – ليبيا
العالم الآن – إنّ الدولة في الإسلام التاريخي جنينيّةٌ بسيطةٌ عند المقارنة والدولة المواطنة الحديثة وأن الفرد هو الأساس لاالقطيع، حيث أن الدولة الإسلاميّة التاريخية تنطلق من منطلقات تلغي الفردانيّة أولاً وتؤسس لتكريس مفهوم الإستبداد الشرعي ثانياً حيث الخلافة مبنيّة فقط وفق المذهب السنّي على الغلبة القرشيّة، وحسب المذهب الشيعي على الإمامة الغائبة، انطلاقا من فكرة الراعيوالقطيع وكون الحاكم هو ولي الأمر كلّه، وصفته إمبراطوريّة منذ معاوية مرورا بعبد الحميد الثاني آخر العثمانيّين وصولاً الى محمد جلبي آخر سلاطين الأناضول فترة النزاع على العرش، وصولا الى عبد المجيد الثاني آخر الخلفاء المائة، حيث في الدولة الحديثة هو مجرد موظف ذو صلاحياتٍمحدودةٍ، تحكمه القوانين وكنتيجة ضل الإسلام السياسي يتحدث لغة من عصر آخر، حيث دائماً ومنذ عصر أخناتون الموحد الأول في العالم القديم وصولا الى عصرنا هذا كان رجل الدين بحاجة الى السياسي ليطبق احكامه الدينية على المجتمع، وكان السياسي في حاجة ملحّةٍ أيضاً لرجل الدين كي يضيف لحكمه شرعيّة لا علاقة لها حقيقةً بالدين نفسه،كلاهما لا يهمه أمر الدولة أصلاً إلا في حدود البقاء فوق سدّتها.
حكم الدولة الإسلاميّة خلفاء راشدون وآخرون غير راشدين، وكانت الدولة دائماً تنهار بإنقلابٍ تلو الإنقلاب، ففي زمن العثمانيين توجد نماذج مثيرة للسخريّة وحالات من استبداد يبرر له مصطلح “ولي الأمر“ الذي تحول الى إمبراطور، فكان مصطفى الأول المختل الذي سجن إخوته، وعبد الحميد خان الخليفة الأحمر ومحمد المرشد الى طريق الصواب والذي تم في عصرهما إبادة الأرمن إبادة جماعية لا مثيل لها.
ما يهمّنا هنا في معرض الحديث عن الدول الإسلامية هو سؤال لدعاتها مفاده : في حال أنّنا قبلنا الطرح الذي يقدمونه، تاريخ شمال إفريقيا يحوي اسماء دول عدّة اطلقت على نفسها اسم دولة إسلاميّة، كالمرابطين، الموحدين، الأغالبة، الأدراسة، الفاطميون، فكانت دول المعتزلة والشيعة والإباضية والصوفيّة، لماذا لا يتم الحديثعن هذه النماذج، ويقتصر الحديث عن الدويلات المشرقيّة، نحن مغاربة فلماذا يحاولون دائما سحبنا بعيداً نحو الشرق، أم أن هذه الدول كافرة ملحدة كفر وإلحاد ابن رشد وابن سيناء والرازي وفق نفس الفهم الحنبلي الفصامي لتاريخ أكثر إنفصاماً.
المشكل الحقيقي في العقل السياسي لدى الإسلاميّين أنهم يقفون أمام السيرورة التاريخية التي تخبرنا أن الزمن لا يعود الى الوراء، فالدولة الدينية اليوم هي دولةٌ خارج الزمان الحاضر، إذ بعد خروج أفكار هوبس، لوك،روسو ومونتسيكيو المؤسسّين لفكرة العقد الاجتماعي والنظرية الحديثة للدولة، وبعد انفجار المعلوماتيّة والوصول الى دولة الفردانيّة والفضائات الاقتصادية والجيوبوليتيكيّة الكونيّة الكبرى في العالم الحديث، تلك التي بقيت مجتمعات الدول في شمال إفريقيا والشرق الأوسط خارجه تفصل بينها وبين الواقع الحديث فجوة تزداد حجماً، يبقى الحديث عن دولة الشريعة أو عودة حلم الخلافة الإسلاميّة مجرد دعوةٍ لاستبدادٍ كهنوتيٍ، ويبقى قفزةً في الفراغ توصل الى انهيار الدولة، المجتمع والدين أيضاً.
الإخوان المسلمون الذي يحاول تقديم مشروعٍ إسلامويٍ، في حقيقة الأمر تنظيم يحوي داخله بنية دولة فاشيّة بامتياز، عبر بنية الزعيم : المرشد، الإنضباط : الولاء والبراء، لكن المضحك في الأمر هو تقديم المدرسة الوهابية نفسها كبديلٍ لهذا التيار رغم كونهما وجهان لعملةٍ واحدةٍ، كلاهما مسجونٌ داخل غرفةٍ محكمة الإغلاق تعتبر الحداثة ذنباً، كونها تؤسس للفردانيّة وحرية التفكير، فتعلن أن الحداثة ليست سوى مفهوماً ماديّاً لعالمٍ خالٍ من القيم الروحيّة والأخلاقيّة، وهذا فهم خاطئ ومغلوطٌ سببه الفصام الزمكاني الذي يحويه المشروع الإسلاموي، والقطيعة المستمرة وواقع العولمة، حيث يصر الإسلامويّيون على فصل أنفسهم والمجتمعات المسلمة في جزيرةٍ نائيّةٍ منشأها إحتكار الخير والمنفعة للجماعة المسلمة التي لا تحدها حدود الدولة أصلاً، وهذه مشكلة أخرى.
الدولة أساس المجتمع الحديث، والسبب في فصام الإسلاميّين هو القفزة في الفراغ من مجتمع القبيلة : الوثن الى دولة الديمقراطيّة : الإنسان المبنية على حق إختيار صندوق الإقتراع، إضافةً لحالة الصدمة الحضاريّة وتحول هذه المجتمعات الى مجتمعات ردات أفعال، مبنيّةٌ على لعب دور الضحيّة، بالإضافة الى أن هذه الديمقراطيّة والتي نشأت في الغرب بعد الثورة الإقتصاديّة تحديداً في أواخر القرن التاسع عشر لم تجد بيئة لها في مجتمعات ريعيّةٍ تمتلك إقتصاداً مبينياً على البيع، الشراء ووجود النقود فقط، لا على وجود الأيدي العاملة أو المشاريع الزراعيّة والصناعيّة، دول الموظفين لا يمكن أن يكونوا نظيراً لدولة العمال، وهنا تكمن الكارثة المزدوجة.
في ليبيا كل المشاريع السياسية المقدمة في الساحة اليوم بعد دولة القذافي لا تملك سوى خطّة الحكم أطول فترة، لكن مشروع الإسلاميّين الذين يختلفون في الشدة لاالنوعيّة هو الأخطر، كونهم يمتلكون عداءً لفكرة الدولة والديمقراطيّة وتبعاً لذلك لحكم الشعب عبر تسليم رقبته الى التاريخ والقراءة البارغماتيّة للنصوص الدينيّة، والتي هي في واقع الأمر ليست سوى قوانين وضعيّة نتجت في مرحلة زماكنيّة معزولة عن نص القرآن نفسه، الفقه ليس هو الشريعة، وترحيله خارج واقعه الزمكاني يجعله نصاً ميتاً، فشريعة ابن حنبل أو مالك تخص فقط عصرهما.
هذه هي الفكرة الخاطئة التي نشأ عبرها أن الوقوف أمام النداء بإقحام الشريعة في اللعبة السياسية ونصوص الدولة المدنية عداءٌ للدين نفسه، رغم كون الإسلام السياسي متلوّنٌ لدرجةٍ يستعد فيها للتخلي عن الإسلام نفسه، ولنا في قصة غنوشي تونس والذي أعلن أنه أكثر علمانية من بورقيبة نفسه، رغم أن السبب الحقيقي هو الظروف الموضوعيّة في تونس والتي لولاها لكان مجرد صلابي آخر قرر التضحية بالدين والدولة أيضاً مقابل استبداد حزبه بالحكم.
موجز القصّة أن الدين لا يؤسس لدولة، أولاً كون الدولة محدودة بجغرافيا، حدود وجوازات سفر، بينما الدين غير محدود بأي منها، مكانه الضمير مساحة الانتماء فيه عاطفية، وساحة الإنجازات فيه مكانها خارج الزمكان نفسهما في الحياة الآخرة، والإيمان بالربط بين الدين والدولة يحقق نصف الدين ونصف الدولة فقط، لينتج دولة أناركيّة، دولة لا تعدو أن تكون سوى جهازا قمعيا أُضفيت عليه الصفة القانونية، تخدم مصالح الأطراف الأكثر تمتعا بالمزايا والقوة والثراء.
الإسلام مناقض للدولة الحديثة، لا لأنه ضدّها بل لأن كلّاً منهما ينساب في مستوى موازي للآخر لا يلتقيان، الأصل في الدولة هو الحق، أما الدين فإن الأصل فيه هو الخير، والتناقض المنطقي بين مفهومي الحق والخير تناقض لم يتم حلّه الى اليوم، نفس الشيء بالنسبة للإسلام والحضارة، فالدين ربانيٌ كاملٌ غير ناقصٍ ومفصولٍ عن المكان والزمان وعلى جانبٍ آخر فإنّ الحضارة إنسانيّة الصنع، تحوي العيوب كونها مرتبطة بعوامل الجغرافيا والقدرة البشريّة، والمسألة الأهم في الموضوع برمّته هو أن الإسلام أناركي بطبيعته، بمعنى أن السلطة فيه للفرد والقرارات كلها فرديّة متجهة من المؤمن في اتّجاهه، هذا قبل أن تتكون المدارس الفقهيّة المستحدثة بعده والتي أعلن نهاية تاريخ الإسلام نفسه بعد إغلاق باب الإجتهاد، كون النص الديني : القرآن أصلا تجاهل الحديث عن تفاصيل الحياة العامة ومسألة السلطة وتبادلها أو حتى شكلها، كما إن التراث الإسلامي منفصل عن واقع العالم الحديث، وليست قصة طلب مضاجعة الزوجة الميتة في البرلمان المصري أو تطبيق حد الحرابة وقطع أيدي المتظاهرين من أعضاء نقابات الشغل في البرلمان التونسي من قبل أحد الإسلاميين سوى دليلٍ على ذلك.
المشكلة هنا مزدوجة، مشكلة مفاهيم مختلطة ومشكلة غياب إدارة، بالإضافة الى كارثة المال الفاسد، وهذه مسائل تحتاج الى رجال دولة لحلّها والتخلص من موروث الإستبدادوالذي انعكس كنمط سلوكي لرجالٍ جعلوا الدين مطيّةً ليسرقوا الدولة من الناس ويفصلوا شريعة الله عن الله نفسه.