يسقط مجلس النواب، ماذا بعد؟.. اصطدام الأمل بالوهم.- عامر غزلان
العالم الآن – تلجأ الشعوب بالعادة للصعود إلى منصات التعبير عن الرأي في الحالات التي تشعر فيها هي بالحاجة للتعبير عن الرفض أو الغضب، وهذه السطور واحدة من هذه المنصات، فلولا شعور الحاجة للدفاع عن النفس، لما بذل أي إنسان في العالم أي جهد للتعبير عن رأيه في قضية عامة أو خاصة، التعبير عن الرأي في اغلب حالاته هو حالة من ردة الفعل، يشعرالإنسان بأن هناك شيئٌ ما يخصه في هذه القضية، فيتولد له شعور الحاجة إلى الرد.
ووسائل تعبير الناس عن آرائهم قد تطورت في سيرورة الأيام، فمن قبل، كان تعبير الإنسان عن رأيه أقرب للوحشية، كان الإنسان في بداية نشوء الدول إذا رفض أفعال دولته أو أفعال السلطة التي يتأثر بها، يفكر مباشرة باتخاذ ردة الفعل المادية أي القتال، لرفض هذه الأفعال أو الإنقلاب عليها، إلا أن التجربة والخطأ والتكرار، اثبتت للانسان مراراً أنه كلما تقدم هو بنفسه باتجاه التحضر والتعقل والحوار والتفاهم، كلما كانت منجزاته ومكاسبه أكبر، وخسائره أقل، حتى صار الحوار في مرحلة مبكرة من تاريخ الإنسان، مطلباً للجميع، حتى في أشد الأزمات بين الناس والسلطة، وحتى في أعلى مراحل الغضب من الجهتين. وهذا المقال دعوة لحوار من هذا المستوى، نفكر بالمرحلة الأولى فيه فيما نريدُه نحن، نصيغه في رسالة إنسانية حديثة، من ثم نخاطب بها صاحب القرار والسلطة المسؤولة مباشرة، بدون خجل او مناورة.
من نحن؟ ومن هو صانع القرار؟
لقد نظمت الدول الحديثة، سواء جمهوريات أو ممالك العلاقة بين أفراد المجتمع بصورة أكثر وضوحاً وأكثر قوة، عما كانت عليه في الدول القديمة ما قبل الحديثة، الدول الحديثة اليوم تنظم العلاقة بين الأفراد بقسمهم إلى مجموعتين، مجموعة صناع القرار، ومجموعة المواطنين، تربط العلاقة بينهم اتفاق معلن بتفاصيله حول حقوق وواجبات كل طرف منهم، حتى يضمن الطرفان استمرار مسيرة عمل ومهام كلٍ منهم، فالسلطة بحاجة الشرعية، وبحاجة الموارد التي سوف تستجلبها من المواطنين بموجبها، والناس بحاجة أن تقوم السلطة بمهامها لتهسهيل حياتهم، وكذا، فقد تعارفت الدول -والدولة هنا يقصد بها جميع افراد الحيز الجغرافي الوطني- على توثيق الشكل الذي تريده للعلاقة بين السلطة والناس فيما يسمى “العقد الاجتماعي”، تعلن عنه في وثيقة عالية النفوذ تسمى في أغلب الدول “الدستور”.
في الأردن، بدأت العلاقة بين الأردنيين في إطار الدولة الوطنية، عند نداء الأردنيين بالأمير عبدالله بن الحسين -رحمه الله- أميراً لهم، فوضع بينه وبين مجموعات الأردنيين في قبائلهم وأريافهم ومدنهم العهود والمواثيق والتي كانت في مشتركها تتركز على حفظ كرامة الأردنيين والدفاع عن حرياتهم، والدفاع عن أرضهم ومصالحهم، من ثم بدأت مجموعات الأردنيين من وجهاء قرى ووجهاء عائلات ووجهاء مدن وقبائل بالتجمع في أطر مشتركة ممثلة لهم، عُرِفّت فيما بعد بمجموعة المؤتمر الوطني، سنت هذه المجموعة عبر المؤتمرات الوطنية الأول والثاني والثالث، الي جمعت به العهود التي بينها وبين نظام الحكم على رأسه الأمير عبدالله بن الحسين، وكانت هذه المواثيق عهداً وثيقاً ربط مختلف مكونات الدولة الأردنية من مواطنين وسلطة، إلى أن جاء سن الدستور الأردني عام 1952، والذي عرَّفّ مكونات الدولة ومهام كلٍ منها. في التشريع والرقابة والتمثيل العام مكون الدولة المسؤول هو “مجلس الأمة” بشقيه “مجلس النواب” المنتخب، ومجلس “الأعيان” المعين من قِبّل جلالة الملك، يكون هذا المجلس حصة المواطنين في نظام دولتهم ويكون له الكلمة الأنفذ والأعلى سلطة، فهو من يسن التشريع وهو من يأتي بالحكومة أو يزيحها، وفي تنفيذ التشريع؛ مكون الدولة المسؤول هي “الحكومة”، التي تمارس سلطاتها الدستورية إذا حصلت على ثقة مجلس النواب المنتخب، وترحل إذا سحب مجلس النواب ثقته، وفي القضاء “المجلس القضائي”، ويكون جلالة الملك هو رأس السلطة التنفيذية وحامي الفصل بين السلطات الثلاثة.
في ظِل هذا النظام المتكامل، أين مشكلتنا اليوم؟
المشكلة هي أن الناس تشعر اليوم بالسخط على نهج الإدارة العامة للدولة، والذي ترسمه وتنفذه الحكومة والتي يفترضُ بها أن تكون مضبوطة ومراقبة من قبل مجلس النواب المنتخب من قبل المواطنين، فتذهب الناس إلى مطالبة مجلس النواب بسحب الثقة عن الحكومة، ويبدأ المجلس هذه المواجهة بمذكرة لسحب الثقة، والتي تفشل دائماً بسبب غياب الإجماع النيابي عليها، لأن النواب يصوتون عليها بشكلٍ فرديّ، لا بقرار إتلافيّ، أو قرارٍ حزبي، فيظهر للناس حقيقة ضعف أداتهم الدستورية “مجلس النواب” وأنهم يمثلون أنفسهم بصور فردية، فيذهبوا إلى المطالبة بالرحيل الحكومة مباشرة من قبل جلالة الملك، فيحل جلالة الملك الحكومة وتأتي حكومة جديدة، فتشعر الناس بقصر الفروقات بينها وبين سابقتها، وتيأس من جدوى تغيير الحكومة فتنادي برحيل مجلس النواب، والإتيان بمجلس جديد يكون ممثلاً أقوى لهم، فيذهب المجلس ويأتي مجلسٌ جديد، إلا أنه يكون مشابهاً لسابقه، وتعودٌ هذه الدائرة للتحرك من جديد.
أين المشكلة إذا؟
المشكلة في عناصر عملية اختيار مجلس النواب، وعناصر عملية اختيار الحكومة، فإذا كنا كلما غيرنا الحكومة ومجلس النواب، كان الجديد مشابهاً للذي قبله، فالمشكلة في الطريقة، والطريقة هنا لها محددان رئيسيان يرسمانها، وهما “التشريع الناظم” و”الإرادة العامة”، التشريع الناظم لطريقة تشكيل مجلس النواب هو “قانون الانتخاب” وهو الذي بشكله يحدد شكل مجلس النواب، فيصح القول “قل لي ما هو مجلس النواب الذي تريده؛ أعطيكَ قانون إنتخاب يأتي به”، قوانين الانتخاب وتعديلاته منذ عام 1993 لم تفتح المجال الحقيقي أمام الأحزاب للمشاركة بالعملية الانتخابية بالإضافة إلى المشاكل المجتمعية التي ما زالت تدفع بالناس لاختيار ممثليهم على أسس التمثيل الضيفة، العائلة، أو المنطقة، وهذه المشاكل رسختها فوانين الانتخاب المتعاقبة التي جعلت دوائر ترشح الناس لملجس النواب دوائر جغرافية ضيقة، فمهما كان المترشح كفؤاً وقادراً على تمثيل إرادة وطنية، سوف يصطدم بحقيقة أن عليه أن يقدم برنامجاً انتخابياً يرضى دائرته الجغرافية المغلقة، على عكس ما بامكان برنامجه أن يكون إذا ما كان مرشحاً للمواطنين في مختلف مناطق المملكة.
فالمرشح عن دائرة جغرافية ضيقة، سوف يُسَخِرٌ جُلَّ جهده لخدمة هذه الدائرة، وتطويع كل ما تؤتيه النيابة من سلطة لاستجابة لطلباتهم التي تحمل الصفة الخاصة في أغلبها، من أجل أن يضمن أن تصب أصواتهم في صناديقه في الانتخابات القادمة، وكذلك الحال للمرشح عن الدائرة الوطنية فرضاً، هو سوف يبذٌلٌ كُلّ جهده لإرضاء الإرادات الوطنية المشتركة بين الأردنيين من مختلف المحافظات والمناطق والخلفيات، حتى يضمن أصواتهم في الانتخابات القادمة، وهكذا هو العمل النيابي في العالم.
أيُ النموذجين من النواب نريد، نحتاجُ قانوناً يفتح المجال أمامه للقدوم.
إن النموذج الأقرب للنائب الذي نريده في مجلس النواب، والذي بامكانه أن يلغي حالة العمل النيابية الفردية، التي هي السبب الأول لضعف قوة المجلس، هو النائب القادم من إرادة وطنية متجاوزةٍ للجغرافيا، والذي بامكانه أن يخلق تحالفات مع النواب الذين جاؤوا للمجلس بنفس طريقته والذين يتشاركون معه الأهداف، ما هو قانون الانتخاب الذي يحقق ذلك؟ هو قانون انتخاب يضمن حصة وازنة من مقاعد مجلس النواب للنواب القادمين من الدوائر الوطنية، أو الذين يمثلون جماعات عابرة للجغرافيا والعائلة، حتى يكون لدينا مجلس متكون من مجموعات بامكانه الجزم في القرارات، كما حال مجالس النواب القوة في العالم، لا من مجلس متكون من أفراد فقط، لا يمكن لقرار كامل أن يمر من خلالها إلا بشق الأنفس، كما هو حال مجلس نوابنا اليوم.
من هو صانع القرار الذي بامكانه أن يصمم هذا القانون الذي يحقق مطلبنا؟
مشكلتنا في التشريع، والسلطة المسؤوة عن التشريع بغض النظر عن دائرة التشريع هو مجلس النواب، أي أن كلمة مجلس النواب هي الكلمة الأولى في التشريع، أي أنه بمعنى إن كان هناك إرادة لمجلس النواب في سن تشريع فسوف تسمع له الجهات الشريكة وهي الحكومة ومجلس الأعيان، إلا أننا في حالتنا اليوم لسنا نملأ يدنا الكامل من أن مجلس النواب سوف يكون يداً واحدة لتعديل قانون الانتخاب بالاتجاه الذي نريد.. إذا ما العمل؟
العمل هو في بدء حوار وطنيّ جاد، تعبر فيه الحراكات الشعبية والأحزاب والمؤسسات العامة عن قانون الانتخاب الذي تريده، والذي لا يمكن له أن يخرج من غاية تمكين القوائم الوطنية والمجموعات الوطنية العابرة للانتماءات الضيفة، وسعي وطني أجد، في الضغط على السلطتين التشريعية والتنفيذية في الإسراع في فتح قانون الانتخاب للتعديل في أول أعمال مجلس الأمة بعد الموازنة بعد الدعوة الملكية للافتتاحه في الدورة العادية الرابعة والأخيرة لمجلس النواب الثامن عشر، وهنا حصتنا الأربح على عجرها وبجرها هي في مجلس الأمة، هم من بامكاننا اقناعهم ومخاطبتهم، فمن الذي نريد له أن يسقط “مجلس النواب” المؤسسة، أم “قانون الإنتخاب” النهج؟
عامر غزلان
باحث في الشؤون السياسية.