فلسطين محتلّة أمّا شعبها فلا ؛؛؛- د.عصمت حوسو – الأردن
العالم الآن – على الرغم أن خاصرة العرب فلسطين هي القطر العربي الوحيد المحتلّ، الاّ أنها أمست حاليًا البلد العربي الوحيد غير المحتلّ معنويًا، بصمود شعبها الجبّار وتمسكّه بالأرض؛ كلّ الأرض.
ألف تحية لك يا شعب فلسطين الحرّ الأبيّ، وأخصّ بالتحية (شعب غزّة) المغوار، غزّة هاشم، لكم جميعًا منا كل الحبّ، (مقاومتكم) أحيت فينا الأمل لعودة ما تبقّى من الكرامة العربية لنا مرة أخرى..
صحيح أن قضية فلسطين (كانت) القضية المحورية للعرب، وغدت الآن على وشك التصفية بتآمر ذات العرب، ولكن، ما زال هناك الفرصة الأخيرة أمامهم قبل أن (يصفعهم) هذا القرن ويخرجهم من التاريخ نهائيا، خروج مُهين وذليل بلا عودة كالميت الذي لا يعود.
وللولوج في التاريخ مرة أخرى يتطلب ذلك من العرب تبنّي منهجًا مغايرًا يتناسب مع صمود الشعب الفلسطيني ومقاومته لعدوه الحقيقي وعدوّ كل العرب؛ ذلك الشعب الذي لم تنحرف بوصلته يومًا عن عدوّه الحقيقي، رغم كل الانقسامات الداخلية التي افتعلها العدوّ ذاته بين متنازعي السلطة في فلسطين، ورغم كل الخيانات والتآمر على فلسطين وشعبها إلاّ أن هذا الشعب العظيم ما زال صامدًا، ولم تتيه بوصلته الوطنية عن الانتماء للأرض والذود عن العرض وعن التصدّي للاحتلال ومقاومته على الإطلاق.
وبناءً على هذا الصمود الفخم وحتى لو كانت أرض فلسطين محتلة، الاّ أن شعبها أبى الاحتلال كلّ الوقت، ولم يساوم يومًا على شبر من تراب فلسطين، وقدّم روحه رخيصة فداءً لها؛ فشعب فلسطين غير محتلّ..
تخلّي البعض عن فلسطين والتآمر على بيعها بثمنٍ زهيد قد شظّى المنطقة وأدخلها في وحل (الهوية) وسيّس الانتماءات وشرذمها، ويا ريت وقف الأمر عند هذا الحدّ، إنما تعدّاه إلى إعادة رسم المنطقة حسب تصورات الآخر ومصالحه؛ فتمّ إعادة تفصيل ثوب العرب على مقاس ذلك الآخر الغاشم الحاقد والغاصب، فتهاوت “أحجار” الدومينو العربية ولم تتهاوى (حجارة) الشعب الفلسطيني ولا سكاكينه ولا كاوتشوكه؛ سلاح الكرامة الجديد..
وفي ظل الانقسام المقيت والتشرذم العربي العربي، ترك العرب حلَ قضية فلسطين لغيرهم، فعصف تخاذلهم في دولهم، وبقيت فلسطين وشعبها تقاوم المحتلَ بشراسة وبأبسط الأسلحة أمام ترسانة العدوّ الصهيوني الشرسة.
الحسرة التي يعيشها الشرفاء حاليًا لم يشفها سوى صمود الشعب الفلسطيني، الذي أرعب العدوّ الصهيوني على مدار عقود الاحتلال جميعها، ولم يستطع قمع شعب الجبّارين بكل أسلحته المتقدمة وتآمره مع العربان عليهم، وهذا بشهادة مفكريهم وكتابهم في صحفهم، فصمودك أيها الشعب الفلسطيني (غير المحتلّ) هو مطمح جميع الأوطان الهزيلة ومأمل كل الشعوب العربية الفقيرة..
ونحن وإن أرهقنا التخاذل واحتلال الأوطان العربية “غير المكشوف”، إلاّ أننا جميعًا نرقب بتوجّس مقاومة شعب غزّة العظيم لنقاوم بداخلنا داء الهزيمة بضراوة الأشاوس، وحريّ بنا أن نحيي الأمل الآن ونحن نرى ذلك الشعب يُقبل على الدفاع عن عرضه وأرضه عاري الصدر وخالي اليد وبشجاعة وبسالة عجز عنها الكثير.
فالعبرة لمن يعمل ويقاوم غير آبهٍ بالعمر ومغريات الحياة للموت بشرف والمقاومة حتى آخر رمق، مقاومة شعب فلسطين فقط من يسقط على جدرانها (داء) الصهيونية المُسَرطِن، ويرقى على محرابها (دواء) الكرامة المهيمِن..
وعلى الأقل نحن الشعبان التوأمان (الأردني والفلسطيني) من جميع العرب، وبعض العرب من الشرفاء، بهويتنا العربية الجامعة ووحدتنا الوطنية ما زلنا قابضين على (جمر) الوفاء لفلسطين وشعبها حتى لو أحرقنا؛ فنحن هنا لا نحتمل حالة الغموض ولا الفراغ ولا النصر الكاذب، وما زلنا متمسكين بفلسطين (كلّ فلسطين) من النهر إلى البحر، وما زلنا مقاومين رغم كل الضغوط وضنك العيش، فالكرامة شعارنا وهي العنوان وستبقى..
الكيل بمكيالين تمارسه الدول العظمى حاليًا لتبسط نفوذها حسب مصالحها، وتمارسه الأنظمة لتشرعن وجودها وضمان ديمومتها، والحاضر العربي الحالي يرينا فجور تلك الازدواجية والكيل بمكيالين حسب تبدَل المصالح، وعلى حساب العرب وخاصرتهم فلسطين على وجه الخصوص.
لذلك يتطلب من العرب في ظل هذا المشهد العربي الخالي في الوقت الحاضر وقف نزيف الاستغلال والكيل بمكيالين والتشبّث بمبدأ ثبات المعايير في أقلّ تقدير، لعلّ ما شهدناه خلال السنوات القليلة الماضية يشي بوضع مرعب مفاده: ” كونك حاكمٌ الآن لا يمنحك المناعة أن لا تكون سجين الغدّ”..
الشعب الفلسطيني برجاله ونسائه وأطفاله وشيوخه أثبت على مدار السبعين سنة الماضية أنه غير محتلّ وصموده فقط الذي أرعب الصهاينة، وهو الوحيد الذي يُحسب له ألف حساب بين كل الشعوب، عوّلوا على صموده وادعموا مقاومته وقفوا بجانبه لعلّ الله يخلصكم من احتلال ذلك الغاصب لكم.
الخرائط الجينية للشعب الفلسطيني الفاخرة ما زالت تثبت إلى الآن أن (جين البطولة) ما زال موجودًا فيهم ولم ينقرض كإخوانهم من بعض العرب، بطولتهم الاستثنائية هي من تحيي فينا الروح المعنوية الهزيلة البائسة، وتُذكي فينا الأمل لانتزاع حقوقنا المتآكلة من تلك القوى المتخاذلة، أمهات ذلك الشعب العظيم الجبّار ضحّت بشبابها وفلذات أكبادها فداءً لفلسطين، ولم يغريها لا مقعد حرير ولا منصب مثير ولا حتى مال وفير، رغم العوز والحصار والتضييق.
لذلك حياة أولئك الأبطال أطول بكثير من حياة قاتليهم أو غادريهم أو عملاء وخونة الوطن، نعم صحيح أن فلسطين محتلّة لكن شعبها أبى أن يكون محتلاً، وسيجعل تلك الأرض المحتلة مقبرة للصهاينة رغم كل التخاذل العربي.
موقف العرب مما يحدث في غزّة اليوم هو صفحة إذعان جديدة تُضاف إلى صفحات كتاب “خروج العرب من التاريخ”…
حتمًا سيبقى لنا حديثٌ آخر طالما فلسطين مطعونة، وطالما هي من تتبرع بدمها ودم شبابها لفقراء الدم والضمير… دمتم….