في ذكرى وصفي اللغز – سهير جرادات – الأردن
العالم الآن – ثمانية وأربعون عاما وما زال وصفي التل ذلك اللغز العصي على الفهم ، اغتيل مشروعك السياسي قبل جسدك ، برصاصة غدر صدرت ممن كان الأجدر بهم حمايتك ومشروعك الذي كان يقصد منه الحفاظ على كرامة وطنهم فلسطين وحمايته وصون عزته ، لا أن يغتالوه ، وكأن لسان حالهم يفضح انتماءهم لمصالحهم الفردية الضيقة البعيدة كل البعد عن الانتماء والوطنية ، بعد أن ظهروا يوم محاكمتهم الصورية ، التي لم تصدر حكما بحقهم والابتسامة تعلو وجوههم ، وهم يرتدون أرقى البدلات وياقات العنق الملونة ، ويرفعون أيديهم الملوثة بالدم وهم يلوحون بشارة النصر ، فرحين باغتيال فكرك الذي يمثل خطرا على إسرائيل.
قد نتفهم المعارضة الامريكية والناصرية لمشروعك ، لكن ما يصعب تفهمه ذلك العداء الفتحاوي واليساري لمشروع يحمل العداء لاسرائيل والايمان بمواجهتها ، كيف سمحت لهم وطنيتهم وقضيتهم أن يغتالوا مشروعا هم المستفيدون منه ؟!، وكيف تجرأت أيديهم على اطلاق النار على يد وصفي التي كتبت هذا المشروع ؟! ليغتالوه وقبله مشروعه باتفاق قومي وتخاذل عربي ، ليأتي هذا الاغتيال منسجما مع المعطيات الاستعمارية ، ومن المعيب أن يصدر عمن يطلقون على انفسهم أبناء القضية ، إلى هذه الدرجة تغلغل الفكر الصهيوني؟!
ما احوجنا اليوم اليك يا وصفي ولمشروعك ، يا من دفعت روحك ثمنا لقوميتك ، بعد أن وقعنا معاهدات السلام مع العدو ، حتى ألفنا رؤية العلم الاسرائيلي يرفرف في بلادنا ، معلنين بذلك نهاية العداء والاعلان عن الصداقة ، وأنت من كنت تنادي بضرورة تدريب الجيش على خبرة الاشتباك مع العدو، حتى اصبح في خطوط الدفاع بعد أن تخلينا عن الهجوم والقتال لانصياعنا خلف اتفاقيات السلام وتوقيعها مع العدو ، أين نحن من دورنا القتالي ؟! والى أين نحن متجهون ؟!!
كنت شغوفا بالقضية الفلسطينية ، حتى قضيت من أجلها، عندما اطلقت العنان لمشروعك القومي للرد على العدو الصهيوني من خلال قيام دولة عربية متحدة إلى الشرق من الكيان الصهيوني، تشمل الأردن وسوريا والعراق، لأن قيام هذه الدولة هو الضمان الحقيقي لحصر العدوان ثم دحره خارج الوطن العربي، وتنفيذا لذلك اقترحت تطوير أربع جبهات رئيسة، ثلاث منها دفاعية، ورابع جبهة للهجوم والتصدي، والجبهات الدفاعية هي : الجبهة الشمالية لسوريا، والجبهة الشرقية للأردن، والجبهة الجنوبية لمصر، أما الجبهة الرابعة هي الجبهة الوسطى، وتتشكل بصورة رئيسة من الفلسطينيين، وتعمل داخل الأراضي العربية المحتلة لاستنزاف العدو، وتتحرك من الداخل وتهاجم من جميع الجهات، ويقوم الجيش العربي الاردني وبالاتفاق مع قادة المقاومة في الأردن على تأهيل كوادر الجبهة الوسطى.
اطلق وصفي التل هذا المشروع بعد أن وصل لقناعة بعدم نجاعة الحلول السلمية مع العدو ، ورفض الاحتواء لاسرائيل والتعايش معها ، ورفض الاعتماد على الوساطات الدولية والرأي العام العالمي ، ورفض الاستسلام لاوهام انسحاب إسرائيل من بعض الأراضي المغتصبة ، والامر توصل لقناعة رفض تحاشي الصدام مع الصهيونية.
أي صنف من صنوف الرجال أنت يا وصفي .. فعند الحديث عن الرجال واخلاقهم نحكم عليهم من خلال تصرفاتهم بعد وضعهم في السلطة ، فأنت الذي وجدوا في جيبك عند اغتيالك 60 جنيها مصريا ، وورقة مكتوب عليها أن هذا المبلغ هو مياوماتك عن المشاركة في مؤتمر الوزراء العرب في القاهرة ، وورقة أخرى تضم أحد عشر اسما، كنت مدينا لهم بثمن سماد لمزرعتك ، بعكس نظرائك ممن جلسوا على كرسي الرئاسة فاصبحوا من مالكي المزارع والاراضي وانتقلوا الى رغد العيش في القصور الفارهة ، والمضحك المبكي عند تذكيرهم بحاجتنا الى نهج وصفي ، يغضبون ويعترضون على تذكيرهم بمدى حاجتنا إليك ، اذكركم يا من حملتم الأمانة من بعده ، أن وصفي هو من كان يحرص على وجههنا أمام الاعداء وعلى صون كرامتنا ، وبتنا في حاجة لفكرة ومشروعه بعد أن أضعنا البوصلة في زمن تفوقت المصالح الخاصة على المصلحة العامة .
بالله عليكم ، يا من خلفتموه في المنصب ، أطلقوا لنا اسم مسؤول وضع مشروعا قوميا عربيا كما فعل وصفي ؟!.. واخبرونا أين وصلت الزراعة ، التي تواجه اليوم التدمير الممنهج ، وهو الذي طلب حراثة الارض بالعرض وليس بالطول للاحتفاظ بمياه الامطار ، وأوصى بعدم البناء في اراضي عمان الغربية الزراعية وتركيز البناء بعمان الشرقية ، أين نحن الآن من كل هذا ،بعد أن تحولت مناطق عمان الغربية الى مباني “سردينية” لتستوعب الاعداد الكبيرة التي يستضيفها الاردن .. أين نحن الان في فترة الانحطاط والاحباط التي تعيشها الامة العربية ، بعد ما أصاب العرب الذل والهوان؟.. وأين وصلت القضية الفلسطينية .. حتى بتنا في صراع عن هوية القدس ، والمنازعه على سيادتها؟! .
معكم حق أيها المسؤولون أن تغضبوا أو تستشيطوا غيضا من وصفي، فهذا الرئيس القائد الذي أعلن الديوان الملكي الأردني عقب اغتياله حالة الحداد في البلاد لأربعين يوما، وعلق دوام المدارس لثلاثة أيام، وامتنع بعض الأساتذة الجامعيين عن إعطاء المحاضرات ومنع طلاب الجامعة الأردنية الأساتذة الجامعيين من إعطاء المحاضرات ، وحظي بأكبر جنازة شعبية ، لم يحظ بها رؤساء دول ، سار فيها عشرات الآلاف من الكمالية الى المقابر الملكية ، إلى أن طلبت زوجته سعدية الجابري نقل رفاته الى منزله ليتحول إلى متحف ومزار لأتباعه ومحبيه ، وفي كل عام وفي ذكرى استشهاده تصدر الطوابع البريدية التي تحمل صوره ، ويقوم طلبة الجامعات – الذين لم يعاصروه – لكنهم أسسوا تيارا باسم ” الوصفيون الجدد” بإحياء ذكرى اغتيالك والهتاف له .
وحظي وصفي بشدو الاغاني شعبية عليه في حياته وبعد استشهاده ” يا مهدبات الهدب ابكن على وصفي” ، في أيام الفرح والحصيدة كن يغنين على وصفي ، وفي الملاعب والمدرجات وبين صفوف الجيش العربي الباسل كانوا يهتفون بحياة وصفي ، من أنت يا وصفي ؟! من اي طين انت مجبول ؟!
وصفي ، ستبقى تلك الاسطورة التي ولدت وماتت بعيدا عن أرض الوطن ، وصفي الذي ولد في كردستان العراق ، و استشهد على يد فلسطيني في مصر ، برصاصة لا تطلق إلا من قبل الشرطة المصرية ، لتجسد بذلك أسمى معاني القومية ، إلى جانب تقديم مشروع نموذج يحتذى به في الوطنية والقومية وصدق الانتماء.
لهذا كله سيبقى وصفي التل حيا فينا ، وحاضرا بيننا ، رغم مرور 48 عاما ، ما زال مشروعك القومي لتحرير فلسطين – الذي قدمت روحك دفاعا عنه – يكبر داخل فكر ووجدان كل اردني – عربي – قومي – مسلم ، يؤمن بالقضية الفلسطينية ، فهو من ارسى فكرة القتال حتى النصر ، فهو من كان يعكس اهتمام الأردني بفلسطين وبقضيتها .
هل زمن وصفي تغير ؟!.. أم تطلعاتكم وانتماءاتكم الفردية والمصالحية هي التي تغيرت ؟! ..لقد خط اسمك يا وصفي في معجم الاساطير .. رحمك الله يا قاهر الرجال .
[email protected]