الفلسطينيون بين الكورونا والجوائح السياسية الكبرى !! السفير/ غالب سعد
العالم الآن – منذ أن إجتاحت الكورونا العالم، تُطل علينا السلطة الفلسطينية مرتين في اليوم، تحدثنا عن الكورونا وكأنها الجائحة الوحيدة التي يعاني منها الشعب الفلسطيني، ومع أني أحب فلسطين وقضيتها، ولكني أحب الحقيقة أكثر، إخترت أن أكتب للتاريخ هذه السطور، وبالله المستعان.
فمنذ القرن الثامن عشر داهمت الصهيونية بمشروعها الإستيطاني الإحلالي الفلسطينيين، فحرمهم من متعة الحياة المستقرة في كيان سياسي كغيرهم من شعوب العالم، ومنذ ذلك الحين لم يخرجوا من جائحةٍ حتى يجدوا أنفسهم في جائحة أكبر منها، ومهما تعددت الأسماء والصفات يبقي المشروع الصهيوني هو جائحتهم الأولى والأب الروحي لجوائحهم كلها.
ففي نكبة عام 1948، أُقيمت إسرائيل على أكثر من نصف فلسطين، وتم تشريد أكثر من نصف الفلسطينيين في مخيمات اللجوء والشتات، واستكملت هذه الجائحة الأولى بنكسة حزيران عام 1967، لتبتلع إسرائيل بقية فلسطين، وتواصل تهجير الفلسطينيين والتنكيل بهم وملاحقتهم لقرابة نصف قرن في كل مكان .
في اتفاق أوسلو عام 1993، أو ما عُرِف بعملية السلام الفلسطيني الإسرائيلي، توهم الفلسطينيون أنهم على موعد مع نهاية المأساة، ولو بجزء يسير من حقوقهم، فإذا بهم سرعان ما يكتشفون أنهم وقعوا ضحية خدعة إسرائيلية كبرى، بل جائحة ثانية لا تقل جسامة عن سابقتها.
فقد تم إستدراج قياداتهم ومؤسساتهم وشرعيتهم، للدخول الطوعي الى الضفة الغربية وقطاع غزة، محاصرين في قبضة الإحتلال، معترفين بشرعيته متنازلين له عن الكفاح المسلح، سلاحهم المشروع للدفاع عن أنفسهم وحقوقهم الأخرى، بما فيها حق العودة والموطنة والمشاركة لأكثر من نصف الشعب الفلسطيني بقي خارج خارج المشروع، وبالمقابل إستمر الإحتلال بجلب مزيد من المستوطنين ونهب الأراضي وقهر المواطنين العزل والتنكيل بهم.
أمام هذه الخدعة التاريخية، كان من المنتظر أن ينسحب الفلسطينيون من اتفاق أوسلو أو أن يثوروا علىه، وهذا ما حاول الرئيس عرفات أن يفعله بإشعال الإنتفاضة الثانية منذ عام 2000 حتى وفاته، بعد أن قطع الأمل في تحقيق السلام الموعود، فدفع حياته شهيداً في أواخر عام 2004 ، ثمناً لهذه المحاولة، كما دفع بعض مساعديه الثمن من حياتهم أو حريتهم، بعد أن فشل الإحتلال في تدجينهم واحتوائهم.
لقد أثبتت الأحداث أن سلطة الإحتلال كانت مستعدة لهذه السيناريوهات، من خلال عملية إختراق استراتيجية شاملة لوضع الفلسطينيين، تتيح لها إعادة السيطرة عليهم والعبث بهم وتوظيفهم لبرامجها ومخططاتها، وقد تبلور الإطار العام لهذه الخطة، التي تمثل الجائحة السيياسية الثالثة في حياة الفلسطينيين، بعد رحيل عرفات وانتخاب ابو مازن وتصفية الإنتفاضة الثانية، التي تكرس رسمياً في مؤتمر شرم الشيخ، في الشهر الثاني من عام 2005 ،بين رئيس الوزراء الإسرائيلي شارون والرئيس أبو مازن، الذي لم يمضِ على تسلمة السلطة سوى ثلاثة أسابيع.
ومنذ ذلك الحين يجري تطبيق الخطة الإسرائيلية في الواقع، بإعادة برمجة النظام السياسي ومركز صنع القرار الفلسطيني، لتأمين مصالح الإحتلال الأمنية والسياسية والإقتصادية، وتصميم سياسات لضبط وتوجه المجتمع الفلسطيني بما يسمح بتنفيذ سياسات الإحتلال بدون مقاومة وبالحد لأدنى من الإزعاج، وبالمقابل يترك الإحتلال للطبقة السياسية حرية الإنتفاع بمكاسب وميزات السلطة، تحت حمايته ورعايته، دون الإلتفات لمصالح عامة الشعب وهمومة ولا حتى لحياته، بالمعنى الحرفي للكلمة، وبذريعة هذا التعايش والهدوء، تقوم اسرائيل بترميم شرعيتها أمام العالم وتبني وتطور علاقاتها حتى مع الدول الشقيقة والصديقة للفلسطينيين.
لم تمض بضعة شهور على مؤتمر شرم الشيخ حتى قرر شارون فك الإرتباط والإنسحاب الأحادي من قطاع غزة، الأمر الذي خلق واقعاً جديداً في القطاع، تمثل بصعود كبير لحركة حماس على حساب حركة فتح، ترجمته الإنتخابات التشريعية لعام 2006، بفوز حماس بأغلبية المجلس التشريعي ورئاسة الزراء، وهو ما وضع حركة فتح في موقف صعب، يتمثل بتسليم السلطة والتخلى لأول مرة عن الهيمنة المطلقة .
كانت الجائحة الرابعة في حياة الفلسطينيين حين فشلت كل من حركتي فتح وحماس في التوافق على نقل السلطة بشكل دستوري سلمي، فوقع بينهما الصراع المسلح الذي انتهى بالإنقسام السياسي الجغرافي الذي نشهده في الساحة الفلسطينية منذ عام 2007 حتى الآن .
لم تقتصر خطورة جائحة الإنقسام على الفلسطينيين أنها شلت نظامهم السياسي وأضعفت موقفهم أمام اسرائيل والعالم، بل اكثر من ذلك أنها ساعدت إسرائيل علي ترويض القطاع وسلطته بالوسائل العسكرية أحيانا وبالحصار الإقتصادي التي ساهمت به سلطة فتح في الضفة أو بالإستدراج والإحتواء، بمساعدة أطراف دولية وعربية، كما هو حاصل الأن، وهذا يعني استكمال مخطط الإختراق والإستيعاب الإسرائيلي ليشمل القطاع كما شمل الضفة من قبل، ليدخل الطرفان رغم خلافهما وانقسامهما، تماماً تحت المظلة الإسرائيلية، وتتهيأ الأجواء لتسريع مخططات الضم والإستيطان، وتتجرأ ادرة ترامب على الإعتراف بضم القدس واعتبارها العاصمة الموحدة لإسرائيل، ثم اعلانها عن صفقة القرن التي تمثل دعما ومباركة أمريكية للمخطط الالستيطاني الإسرائيلي على الأرض ومحاولة إضفاء الشرعية الدولية عليه،
خلاصة القول والذي يمكن إعتباره الجائحة الخامسة، وليس بالضرورة الأخيرة، أن في مقابل هذه الإنتصارات الإسرائيلية فإن الفلسطينيين مازالوا يعيشون حالة إنكار كارثية، ومازال بعضهم يشتري من سلطته الوهم، بينما يحاول البعض الآخر لغاية في نفسه، طرح مبادرات لترقيع نظام سياسيي لم يعد في مضمونه قائماً ، كانوا يحلمون بنظام أسسوه في اطار منظمة الحرير أو خارجها بهدف تحقيق الإستقلال ومقاومة المشروع الصهيوني، فإذا به غير قادر وربما غير راغب بالقيام بهذا الدور، ولا برؤية الجوائح الكبرى التي تحيط به، ويكتفي بمقاومة جائحة الكورونا، في معركتين يومياً، وهذه من تلك الجوائح أيضاً.