كورونا “يخطف” الكاتب السوري رياض عصمت في منفاه الأميركي
العالم الآن – عندما قرر الكاتب والمخرج رياض عصمت (1947-2020) الخروج من سوريا في العام 2012 بُعيد اندلاع الثورة لم يكن يعلم أنه لن يعود إلى دمشق، وأن الموت سيوافيه في شيكاغو التي استقر فيها أخيراً في مسار هجرته أو منفاه. والمؤلم أنه سقط ضحية وباء كورونا في أحد مستشفيات شيكاغو بعدما قاومه، مصراً على الكتابة حتى الأيام الأخيرة. وصدر مقاله الأخير قبل خمسة أيام من رحيله، في موقع “الحرة” الذي دأب على الكتابة فيه، وكان عنوانه “ميتات الفلاسفة” ويقصد الفلاسفة الذين “عانوا من الاستبداد السياسي، وعوملوا معاملة ظالمة نتيجة استقلال رأيهم ورفضهم الانصياع إلى الحاكم”. ولعله في هذا المقال الوداعي، شاء أن يكفّر عن السنوات التي قضاها “موظفاً” عالي الرتبة في ظل النظام البعثي، من دون أن يرفع صوته، كعادته دوماً، حتى عندما كان وزيراً للثقافة بين العامين 2010 و2012، عطفاً على سائر المراكز التي تبوأها ومنها رئاسة دائرة البرامج الثقافية في التلفزيون السوري وعمادة المعهد العالي للفنون المسرحية والإدارة العامة للهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون وسفيراً لدى باكستان وقطر…
غير أن من عرف هذا الكاتب الإنغلوفوني الثقافة والحامل شهادة دكتوراه أميركية في الفنون المسرحية، لم يشعر يوماً بأنه أمام وزير ينتمي إلى جهاز الدولة البعثية، فلا نزعة إيديولوجية بعثية لديه، ولا رسالة سياسية يؤديها، ولا نبرة خطابية في صوته، بل كان غاية في التهذيب والتواضع، هادئاً، متزناً، مثقفاً ومبدعاً في حقول عدة: القصة القصيرة، النص المسرحي، التمثيل، الإخراج، النقد… وفي سيرته نقاط مضيئة جداً ومحطات وأعمال ومواقف وطنية لا سياسية، ومعاناة يقابلها التمسك بالأمل، والحلم بالتغيير. وكان رياض عصمت ابن مدينة دمشق، يحير أصدقاءه وعارفيه، في قدرته على الجمع بين الوظيفة الرسمية والحكومية الموجهة والخانقة، وبين الحرية في التعبير والانتماء الليبيرالي والديمقراطي. ولكن منذ اندلاع الثورة، قرّر التخلي عن الماضي الرسمي، ويهاجر ثم ينخرط في النضال الهادئ ضد وحشية النظام. وتنقل بين الإمارات وفرنسا والولايات المتحدة التي استقر فيها وعمل أستاذاً زائراً في جامعة نورث ويست.
حقول متعددة
تعددت الحقول الإبداعية التي كتب رياض عصمت فيها، وقد بدأ مساره الأدبي قاصاً وكاتباً مسرحياً. في القصة القصيرة بدا واقعياً و”طبيعياً” مع خلفية رمزية، وتطرق إلى موضوعات وقضايا سياسية وإجتماعية، ومنها هزيمة العام1967 والصراعات الإجتماعية والمآسي الفردية. وبدا واضحاً أنه لم يسلك مسلك رائد القصة السورية زكريا تامر، وتحاشى التأثر به، على خلاف أبناء جيله. أما في الكتابة المسرحية فكان متنوع المصادر والمراجع، نظراً إلى ثقافته العالمية في المسرح. وكان لا بد من أن يعبر المسرح الكلاسيكي ويتأثر برواده الإغريق، من أمثال سوفوكليس ويوريبديس، لينتقل من ثم إلى فضاء المسرح الشكسبيري والأليزابيثي الذي درسه أكاديمياً، فإلى مسرح الألماني بريشت الذي تأثر بنظريته في المسرح الملحمي والتغريب. وكانت له تجربة في المسرح العبثي الذي كان صموئيل بيكيت وأوجين يونسكو من رواده، إضافة إلى تنيسي وليامز وهارولد بنتر. وبدا واضحاً أن رياض عصمت سعى إلى عبور أبرز المحطات المسرحية العالمية عبر مراحلها التاريخية وصولاً إلى الحداثة. ولم يكتف فقط بالكتابة المسرحية بل تابع معظم النظريات الإخراجية وكذلك مدراس إدارة الممثل.
وفي سيرته الموجزة أنه وُلد في دمشق والتحق بجامعتها ليدرس الأدب الإنجليزي عام 1968، وفيها اكتشف شغفه بالفن المسرحي، حين شارك كممثل في مسرحية شكسبير “جعجعة بلا طحن” عام 1967 وقد أخرجها المسرحي رفيق صبان. أما بدايته، فكانت مع طلاب “اللاييك” عبر إخراجه “أنتيغون” لسوفوكليس 1972، ثم أخرج “هاملت” لشكسبير 1973، وكلتاهما قدمت في إطار “الحلبة.” ومع تأسيس “المعهد العالي للفنون المسرحية” في دمشق، سافر عصمت إلى بريطانيا والتحق بـ”جامعة كارديف”، ليتابع دراسته المسرحية متخصّصاً في علم “تدريب الممثل” عام 1982، ثم انتقل إلى أميركا وحصل فيها على الدكتوراه في الفنون المسرحية عام 1988.
كان رياض عصمت غزيراً في الكتابة على الرغم من مشاغله الإدارية، ففي رصيده نحو خمسة وثلاثين مؤلّفاً في القصة والنقد والمسرح. أشهر مسرحياته: “لعبة الحب والثورة”، “الحداد يليق بأنتيغون”، “السندباد”، “ليالي شهريار”، “عبلة وعنتر”، “جمهورية الموز”، “بحثاً عن زنوبيا” و”ماتا هاري”. أشهر كتبه النقدية: “بقعة ضوء”، “شيطان المسرح”، “البطل التراجيدي في المسرح العالمي”، “الصوت والصدى: دراسة في القصة السورية الحديثة”، “نجيب محفوظ: ما وراء الواقعية”، “المسرح العربي: حلم أم علم”، “ذكريات السينما”، “رؤى في المسرح العالمي والعربي”، إضافة إلى كتابين مترجمين هما: “سينما الغرب الأميركي” و”التمثيل السينمائي”. أشهر مجموعاته القصصية: “غابة الخنازير البرية”، “الثلج الأسود”، “شمس الليل” و”ليلة شاب الغراب”. نشر رياض عصمت مئات المقالات في مجلات وصحف سورية وعربية وأجنبية.
أخرج رياض عصمت في سياق عمله مع فرقة “مسرح دمشق القومي” أربع مسرحيات، هي: “ليالي شهريار” 1995 من تأليفه، مسرحية تنيسي وليامز “ترامواي الرغبة” 1998، مسرحية فرانك فيديكند “يقظة الربيع” 2000 ومسرحية شكسبير “حكاية الشتاء” 2001، وقد شاركت في مهرجان قرطاج في تونس. وأخرج ضمن “فرقة المعهد” ميوزيكال “سفر النرجس” من تأليفه وتلحين رعد خلف وأداء نورا رحال، ومسرحية “القناع” من تأليف ممدوح عدوان. أخرج أيضاً مسرحية برشت “رؤى سيمون ماشار” مع “فرقة الرعية الجامعية”. وسبق أن أسس “مركز إيماء دمشق” عام 1986، وأخرج عرضاً إيمائياً جماعياً بعنوان “برج الحمام الجديد”. وأخرج عرضاً بعنوان “شكسبير: شخصيات وكاريكاتير””1986، ومسرحيتي “الحيوانات الزجاجية” لتنيسي وليامز، و”الموت والعذراء” لآرييل دورفمان في سياق عمله الاختياري في كلية الفنون. أما تلفزيونياً، فأخرج ثلاثيته “الفنان والحب” 1985. ثم أخرج مونودراما “الاختيار” لندى حمصي، وعرضت في القاهرة و كاليفورنيا واليابان. أما بدايته، فكانت مع طلاب معهد ” اللاييك” عبر إخراجه “أنتيغون” لسوفوكليس 1972، ثم أخرج “هاملت” لشكسبير 1973.
في ختام مقاله الأخير الذي نشر في موقع “الحرة” في العاشر من الشهر الجاري يقول رياض عصمت: “لا يستطيع الحاكم المستبد عبر التاريخ هضم فكرة تمجيد أي شخص سواه. إنه يرغب في أن ينسى الناس إنجازات المفكرين والمبدعين كافة، فلا تذكر إلا إنجازاته ومكرماته هو وحده. لذلك، يعتقد أنه الجدير بأن تقام التماثيل له، أن ترسم اللوحات، أن تكتب القصائد وتنشد الأغاني، لكن التاريخ له رأي آخر. مهما تكبّر المستبد وتجبر، تبقى إنجازات الفلاسفة والمبدعين حية في ذاكرة الأجيال، بينما يحكم على أفعال الساسة عبر التاريخ بحسب الخير الذي جلبوه لشعوبهم بحملهم أمانة الحكم بنزاهة وبعدهم عن المصالح الشخصية، فإن هم قصروا في ذلك، ستطاردهم اللعنة حتى بعد الممات”.
” اندبندنت”