ليبيا : سوق العبيد (شرعية العبودية في تاريخنا) – عبد الوهاب العالم
العالم الآن – الاتجار بالبشر، تقليد ليبي قديم… وحسب التقريرالإعلامي المصور للمزاد المخصص لبيع وشراء المهاجرين غير الشرعيين في ليبيا، اتضح أنه ليس مجرد ماض، وإنما واقع نعيشه، وهو ما يُنبئ بنشر تقارير أخرى حول الموضوع، لتتوالى الفظائع في ليبيا متبوعة بالفضائح المخزية .
واستمرار الظاهرة، دليل على سوء التعامل معها، فـ“مكافحة تجارة الأشخاص” عبر أكداس الدولارات والندوات وتصريحات السياسيين، عملية فاشلة، لأن ما يفوت زمرة “المكافحين” هو أن تجارة البشر ظاهرة اجتماعية لها امتداد تاريخي في ثقافتنا الليبية، ومعالجتها لا تبدأ من الخارج، وإنما من الداخل بل من عمق الثقافة ذاتها .
إذ تبدأ المعالجة باستيعاب حقيقة رئيسية وهي أن الاتجار بالبشر اليوم هو امتداد لتراث العبودية في ليبيا... وهذا التراث المهول بدأ منذ وجود أسلافناعلى هذه الأرض ..منذ عام 500 قبل الميلاد، حينكان الليبيون (الجرمنت) يصطادون الأثيوبيين-وهم أبناء عمومتهم- كالحيوانات البرية ويجبروهم على العمل في حقولهم ويشحنوهم في قوافل إلى أسواق(لبدا العظيمة) واويا وصبراتا (1) حيث يجتمعالتجار من حواضر البحر المتوسط لشراء البشر !
ذلك بأن موقع ليبيا الجغرافي المميز، وقبول العالم القديم للعبودية، جعل من حواضرنا مركزا تجاريا للعبيد بمختلف ألوانهم وأجناسهم...إذ لم يكن اللون أو العرق معيارا للعبودية وإنما يسقط فيها أسرى الحرب والأطفال والسبايا...
وازدهرت هذه التجارة في العهد العثماني، حيث كان الأسرى من البحارة الأوروبيين يكّدسون داخل سجون تُسمى “حمامات”، ويتم استغلالهم في البناء والأعمال الشاقة لهذا شيّد الوالي (عثمان الساقزلي) سنة 1640 حماما في طرابلس يستوعب أربعمائة وخمسين سجين مسيحي . بالإضافة للحمام القديم الذي بناه الوالي صفر داى . (3)
لكن في سنة 1816 حصل تغيير جذري قلب أكثر تجارة مربحة في العالم القديم، حيث طالبت الدول الأوروبية باسترجاع مواطنيها (الأسرى) وأجبرت الولاة على توقيع معاهدات لتبادل واسترداد الأسرى..كانت تلك بداية الوعي السياسي الغربيبحقوق المواطن الأوروبي..الذي تزامن مع ظهور النزعة التوسعية التي قضت على الإيالات الضعيفة في شمال إفريقيا (4)..إذ قمعت فرنسا تجارة العبيد في في الجزائر بعد احتلالها سنة 1830… بينما ظلت في ليبيا حتى بعد منع تجارة الرق، وتوقيفها رسميا في طرابلس سنة 1853، حيث استمرت خلسة حتى منتصف عام 1890 ..ولازالت شهادة القنصل الانجليزي سنة 1872 في بنغازي تفضح صمت السلطات المحلية عن انتهاكات حقوق البشر الذين يتعرضون لمعاملة لا إنسانية. حيث يقول: أن عدد العبيد يصل للآلاف…وكان الحكام المحليين يشجعون تجار العبيد .
وليس هذا فقط بل كان خط تجارة البشر بين شرقليبيا وجنوبها محميا من قبل الحركة السنوسية لما لها من مصدر مربح للتنظيم (5) برعاية الشيوخ !
كان هذا هو الحال في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين عندما شهد العالم بدايات الوعي الغربي بحقوق المواطنة والإنسان ....وبالتالي قلّت تجارة العرق الأبيض في بلدان جنوب المتوسط –ومنها ليبيا- واستمرت تجارة العرق الأسود و داكنوالبشرة.
من هنا نفهم ارتباط العبودية باللون الأسود في ثقافتنا، حيث نستعمل وصف “عبد” للأسود، ولم يتوقف الأمر عند المفردات والمواقف العنصرية اليومية، إذ استمرت العبودية ذاتها التي مارسها أسلافنا منذ 500 عام قبل الميلاد في القرن الواحد والعشرين !
بيد أن تاجر العبيد اليوم لا يعي بأنه يرتكب جريمة إنسانية وإنما يعتبر نفسه رجل أعمال ناجح ويظهر بفخر أمام كاميرات القنوات العالمية وهو يحشوالمهاجرين غير الشرعيين في القوارب المطاطية، ذلك لأن أحدا طوال تاريخنا المعاصر،عالج الأبعاد الثقافية لهذه الظاهرة المرعبة .
والأمر مذهل بحق، فخريطة تجارة البشر في ليبيا لم تتغير منذ 500 عام “فمازالت تجارة البشر قائمة عبر مسلكين الأول يُعرف بـ(الطريق الوسطى) في مسار تاريخي من نهر النيجر عبورا بالجبال الجنوبية إلى غدامس (محطة العبيد القديمة)..وأخيرا إلى موانئ طرابلس و زوارا . وأما المعبر الثاني فهو (الشرقي) يبدأ من تشاد والسودان إلى الواحات التي تعد محطات ملائمة لتجار العبيد ثم تكمل الطريق إلى درنة و بنغازي“ . (6)
فلا عجب أن تبرز ليبيا بحكم موقعها الجغرافي وتاريخها، في مجال العبودية المعاصرة ، بيد أنه لم يعد بالإمكان إخفاء هذه الممارسات عن الإعلام والأقمار الصناعية لذا تفضح التقارير على الملأ ما يجري في مراكز احتجاز المهاجرين وداخل أعماق الصحراء .
بيد أن التقارير والندوات، تعجز عن علاج ثقافتنا من الداخل، فهذه الثقافة المعتلة هي ذاتها تحمل أدوات العلاج ، وذلك باستعراض تجارب على درجة عالية من الإنسانية في سيرة سيدي مكاري وهو العبد الأفريقي الذي قاوم القهر في طرابلس قبل 300 عام واعترفت به الدولة القرمانلية الحاكمة آنذاك… كذلك في إنسانية العالم محمد الماعزي الذي ضغط على تاجر لعتق عبد يملكه أو إعادته لبلده فاعتقه التاجر، وصار ذلك العبد شيخا عالما، عٌرف بسيدي نصر، وزاويته في طرابلس معروفة .
كما يمكننا مقاومة هذه الظاهرة، بذكر الإخوان السنوسية الذين أعتقوا إمائهم وتزوجوهم وأنجبوا منهم علماء وقادة . بإحياء هذه الأمثلة وغيرها التي تعطي دروسا شعبية عن حقوق الإنسان في ليبيا، وإدماجها في المقررات الدراسية وبثها على الإعلام، يبدأ الليبي وحده… إعادة اكتشاف ثقافته، ويعالج أمراضها… من الداخل .
———————————————
الهوامش:
(1) الطاهر بن عريفة. تاريخ فزان الثقافي والاجتماعي . المركز الوطني للمحفوظات والدراسات التاريخية . الطبعة الاولى 2010 .ص108
(2) منال الشيخ . الرق والعبودية في تاريخ البشرية : استعراض تتبّعي . الأوان. الجمعة 14 نوفمبر 2008
(3) خليفة التليسي – حكاية مدينة طرابلس لدى الرحالة العرب والاجانب . الطبعة الثانية الدار العربية للكتاب 1985 . ص 97
(4) المصدر نفسه .ص147
(5) Lisa Anderson- Ninetheenth-century reform in Othoman Libya—– international Journal of Middle East Studies VOL.16 ,3(AUG,1984) PP.325-348
(6) تقرير منظمة (human rights watch) سنة 2006 عن العبودية في ليبيا