وسواس الحُبّ القهري – د.عصمت حوسو- الأردن
العالم الآن – وهْم الوقوع في الحُبّ هو (حُبّ وسواسي) وليس حالة الحُبّ الحقيقي؛ لأن الحُبّ هو تلك الحالة التي ترفع الشخص وتسمو به إلى الأعلى؛ أعلى فكريًا وأخلاقيًا وإنسانيًا ومِهنيًا ووظيفيًا، هذا هو الحُبّ؛ فالحُبّ حالة توافقية بامتياز تتراوح بين الانسجام الفِكري والانسجام العاطفي، والأخير هنا هو وليد الفِكري وليس العكس، فيُخطىء من يعتقد أن الحُبّ عبارة عن مشاعر مُجرّدة من عامل العقل.
حالة الحُبّ الحقيقية هي حالة عقلية شمولية، وحالة وعي كاملة، وجاهزية عالية، ومعرفة تامة للشخص المُناسب وفي الوقت المُناسب، (أعني هنا بالشخص المُناسب هو صاحب المنظور الذاتي لعقله الفردي وتناغمه مع المنظور الموضوعي للعقل والضمير الجمعي). وهي بالتالي – أي حالة الحُبّ – تبادلية حتمية مع الآخر (في التفاهم والتكافؤ والتوافق والمشاركة والاحترام والتقدير والفخر والتسامح والعطاء والقبول والتحمّل في السرّاء والضرّاء) واللذان يعترفان كِلاهما من خلال حالة الحُبّ تلك أنّهما صنعا أعظم انتصار في معركة الكون..
فالحُبّ ليس عملية حسابية ولكنّه بالتأكيد مُعادلة صحيحة؛ فهو يُشبِه الحياة، والمعرفة العقليّة والسموّ الأخلاقي تزيد من المُتعة به..
الحُبّ (الأعمى) مقولة لا تنطبق بأي حال من الأحوال على توصيف حالة الحُبّ (الحقيقي) بتعريفه السابق، وإنّما تنطبق تمامًا على حالة (وهْم الوقوع في الحُبّ) أو ما أسميناها هنا بحالة (وسواس الحُبّ القهري)؛ البصر والبصيرة هي أساس الحُبّ الحقيقي، وليس الأعمى كالبصير في الحُبّ وأشياء أُخرى..
(وهْم الوقوع في الحُبّ) يُكافىء حالة وسواسية محضة، تلك الحالة من الانجذاب للشخص غير المُناسب، أو (للأسف الشديد) لشخص مُناسب جدًا ولكن في وقت غير مناسب، وفي أسوأ الحالات يعني الانجذاب لشخص غير مُناسب وفي وقت غير مُناسب أيضًا.
لم تُحاول المصادر الطبّية توصيف الحالات المُتكرّرة شبه اليومية بتشخيص (وسواس الحُبّ القهري) تحت مدرجات اضطراب الوسواس القهري إلى الآن، على الرغم من توافر العديد من الدلائل التي تُبيح للطبّ إدراج ذلك التشخيص كأحد أنواع اضطراب الوسواس القهري، ويعود تبرير ذلك – من وِجهة نظر الكثيرين – أن الحُبّ حالة إنسانية لا يمكن استنكارها وهو شعور فردي لا يحقّ مُصادرته. رغم أن إدراج وسواس الحُبّ طبّيًا من ضمن أنواع الوساوس الكثيرة يُتيح للأشخاص المُصابين به – وهم/هنّ كُثُرُ – طلب العلاج والشفاء، نظرًا لشيوع تلك الأعراض بين الحالات (الواقعة) في وهْم الحُبّ والمُتصاعدة في إطار الوساوس أُفقيًا وعموديًا على حدّ سواء، ونظرًا لتقاطع تلك الأعراض مع أعراض الوسواس القهري أيضًا.
مَن يُصاب بهذا الداء الملعون لأنه فعلًا داءً مُميتًا يُعاني جدًا، ولا أحد يستطيع اكتشاف داءه سوى المُختصّين، أهم أعراض حالة ذلك المُصاب الحزين في وهْم الحُبّ (وسواس الحُبّ القهري) هو الانجذاب لعلاقة غير مُناسبة بشكل يُناقض المعايير العقلية والإدراكية والأخلاقية الأصيلة للشخص، تأتي على شكل موجة انجذاب اقتحاميه طارِئة وهو ما يُماثِل الوسواس. أليس هذا العرض خطيرًا يستدرج الشخص نحو السقوط في القاع أخلاقيًا ونفسيًا واجتماعيًا؟؟
وعندما يُدرِك ذلك المسكين (سواء رجل أو امرأة) عدم جدوى العلاقة وسوءها فإن محاولته لإيقافها يولّد حالة من الحسرة والاشتياق في ذات الوقت، الأمر الذي يولِّد داخله حاجة لحوحة لطلب الآخر، ممّا يدفعه إلى إعادة العلاقة مرة أُخرى لإخماد القلق الناجم عن قطْع العلاقة وتصاعد الرغبة اللجوجة، وهكذا دواليك، وهذه أيضًا صِفة وسواسية. ألاّ تستدعي تلك الحلقات المُفرغة التي تُعيد إنتاج نفسها وإنتاج ذات السلوك القهري بشكل مُرهق العلاج بذات الطريقة لعلاج الوسواس القهري؟؟
أما في حالة السّلم المُتوقّعة بعد ذلك، يبدأ استشعار عدم سداد الرأي باتجاه الشخص أو زمانه أو كِلاهما فيلحّ قراره بالابتعاد، وعندما تُداهم حمّى الشوق والقلق مرة أُخرى يُعيد تكرار سلوك التواصل وإعادة العلاقة وعدم القدرة على الابتعاد، ممّا يزيد التعلّق والتعوّد بشكل وسواسي. ألا تستحق تلك الأفكار الوسواسية مُعالجتها طبّيًا بشكل صحيح تجنبًا لمقولة ومن الحُبّ ما قتل؟؟
للأسف الشديد لا يعترف الشخص المُصاب بوسواس الحُبّ بعدم جدوى هذا الوقوع الرديء المُتعب ولا تولد البصيرة باتجاهه إلاّ بعد مرور وقت طويل قد يمتد لسنوات، وقد يكون نتاجها زواجًا فاشلًا، أو علاقة مشبوهة تحت الأرض قد تقتل الشخص بسريّتها، أو سقوطًا أخلاقيًا أو اجتماعيًا أو أكاديميًا أو وظيفيًّا أو مِهنيًا أو حياتيًا أو علائقيًا أو أُسريًا، وهذا أيضًا ما يُحاكي مسيرة الوسواس. ثم يقود عدم علاج وسواس الحُبّ أو ترحيله إلى حيث لا ينفع الندم.
اعتقد آن الأوان الآن لإدراج هذا المرض القاتل ضمن اللائحة الطويلة لأنواع (اضطراب الوسواس القهري)، لعلّ الحالات الكثيرة جدًا التي تُراجع العيادات النفسية والاجتماعية والتي تُعاني من وسواس الحُبّ تستحق منّا أو ربما تُجبرنا التوقّف وإعادة النظر، كيف لا نفعل ذلك وحالات مُحاولات الانتحار لهذا المرض لا بأس بها !!
تعويلًا على ما سبق نستطيع إذن أن نُجزم هنا ونقول أن الحُبّ الحقيقي: هو واقع ملموس ناجح (علني) لا سرّي مدعاة للفخر والإعلان وهو ليس وهمًا أو مرضًا. والوفاء هو الوسيلة الفضلى للإعراب عن إلهية الحُبّ وثباته، وقياس قُدرة الارتباط المُرتكز على العهْد المقطوع.
يُتوّج الحُبّ الحقيقي في الزواج إن كان صادقًا غير مُغرّضًا وحقيقيًا، لأن الهدف مِنه بناء أُسرة عمودها الحُبّ وأشياء أُخرى.
عدا ذلك لا يندرج سوى تحت عنوان “شبهة عشقية غير مُعلنة” لعابري السرير، وهي غير مقبولة على الإطلاق على الأقل في منظومتنا القيّمية..
إن أردتم الدعوة بالسوء على شخص تكرهونه ادعوا عليه أن يُصاب بالوسواس خصوصًا وسواس الحُبّ القهري؛ فلا يوجد أسوأ من ذلك أبدًا، وبالمقابل إن أُصيب مَن تُحبّون بهذا “السرطان النفسي”، ادعوا له ليلًا نهارًا وعالجوه/ها فورًا فلا تعلمون حجم معاناتهم/هنّ…
وفي الختام أقول أن القدر دومًا يُبدع في تصفية الحسابات، أدعو للمُصابين والمُصابات بهذا المرض العِشقي الوسواسي بعودة محمودة إلى بوتقة العقل مرة أُخرى، بدلًا من حالة (الموت السريري) المُصابين بها، وأقول لهم عودوا على الرغم أن الميّت لا يعود…
في إطار أُحجية السلوك الإنساني دومًا سيكون لنا حديثًا وبقية… دمتم…
دة. عصمت حوسو
رئيسة مركز الجندر للاستشارات النسوية والاجتماعية والتدريب