الرومان فن وفكر وفلسفة طالت الحياة بعد الموت أ. فريال محمد بني عيسى
العالم الآن – منذ ذلك الزمن البعيد والتاريخ يزخر بحضارات عريقة, سطرت الخطوط العريضة للتحولات التي شهدتها البشرية في مختلف مناحي الحياة, وقد خاطبنا التاريخ بإنصاف عن تفوق وازدهار بعضها وأفول واندثار بعضها الأخر, ولم يبخل علينا يوما بتصوير الحضارات التي تعاقبت على فتراته.
والحضارة الرومانية واحده من تلك الحضارات القديمة التي عرفها التاريخ والتي برزت بهوية خاصة ميزتها عن غيرها من الحضارات التي ساهمت في بناء التاريخ الإنساني, إذ تمثل المرحلة الأخيرة من مراحل تطور الحضارات القديمة, وهي ثاني أعظم حضارة عرفتها أوروبا بعد الحضارة الإغريقية, منطلقة من قوتها السياسية والاقتصادية والعسكرية لتسيطر على العالم القديم بحروبها, فأعطت مثالا واضحا للدولة الجامعة ذات الطابع الاستبدادي, وبالرغم من تأثر الرومان كثيرا باليونان والاتروسك وميثولوجاهم منسوخة عن الفكر اليوناني والاتروسكي, إلا أنهم أحدثوا بعض التغيرات التي اتسمت بالعملية, وتميل نحو الواقعية, والتي أولت جل اهتمامها للغزوات والحروب بهدف تمجيد روما, وكان لسيطرتها على هذه الشعوب الراقية الأثر الكبير في انعكاس ذلك على علمهم وفنونهم وعمارتهم, فكونت فنا ديكتاتوريا طبق في كافة أنحاء الإمبراطورية الرومانية مترامية الأطراف هذا إلى جانب إسهامها في الحياة الأوروبية من حيث تخطيط مدنها وإقامة مبانيها إلى جانب تأسيس البنى التحتية, غير متجاهلين لحقيقة مفادها استخدامهم لحرفيين وعمال ومهندسين إغريق باعتراف إمبراطورهم تراجان, فهاهم النحاتون الرومان يولدوا على أيدي نحاتين إغريق, بعد أن نهبوا بلادهم وأفرغوها من فنونها.
وفنون النحت والعمارة احد هذه العناصر التي ولدت متأثرة بالروح الإغريقية والاتروسكية, لتظهر لدينا بمزيج من الخصائص المشتركة بين عددا من الفنون بعضها اتصف بالكآبة والعنف والتي حملت ملامح الأسى والعذاب المستوحاة من الروح الاتروسكية ولكن دون أن تغوص بتفاصيلها وأسرارها الغيبية وقواها الخارقة, إلى جانب ملامح القوة التي اتسمت بها فنونهم, والتي تحاكي واقع الرومان آنذاك لتنأى بعيدا عن الرقة والنعومة التي اتسمت بها الروح الإغريقية, فهاهي تماثيلهم ومنحوتاتهم ظهرت وقد امتزجت بها الواقعية الرومانية بالمثالية اليونانية, لذلك نجدها قد انطلقت من مفهوم المحافظة على التراث إلى جانب تأثرها بالطراز اليوناني الهلنستي, وقد تدرج هذا الفن بمراحل ثلاث ارتبطت بحال الرومان فمن المرحلة المبكرة التي رافقت عصر الجمهورية وقد اتسمت بتصوير الشخصيات التاريخية يرافقها تسجيل للأحداث التاريخية وتميزت بالميل لا استخدام القيم القياسية لإبراز الملامح الخاصة, ثم مرحلة التفوق والإبداع والتي أعقبت تأثرهم بالإغريق والتي توجت خلال القرنين الأول والثاني الميلادي لتنتهي المرحلة الاخيره بعودتها إلى البدايات لتحاكي حالة الضعف التي مرت بها الإمبراطورية والمتمثلة باختفاء مظاهر القوة التي لازمتهم بالقرنيين الماضيين.
وعند الحديث عن العمارة الرومانية نجدها ظهرت بابتكارات جديدة أضافت عناصر بنائية لم تكن من قبل مثل العقود والقنوات والقباب ذات الهوية الرومانية على الرغم من تأثرها بالعمارة اليونانية والاتروسكية, وقد جاءت هذه الابتكارات تبعا لمتطلبات الحياة الجديدة, ضمن تكاليف اقل ومرونة أكثر غير متناسين لعنصر القوة التي اتسمت به عمارتهم مستخدمين الخرسانة, وربما كان لموقع ايطاليا على البحر المتوسط, وغناها بالمواد الأولية كالرخام والحجر بأنواعه والطوب وبعض العناصر البركانية, الأثر الكبير في نشوء عناصر القوة تلك, ومن هنا لا بد من الإشارة إلى أن العمارة الرومانية أسهمت بمجموعة من العناصر كان على رأسها تطوير البناء لملائمة أغراض الحياة العامة, إذ تعدت عمارتهم بهذا الأبنية الدينية إلى مجال الأبنية الدنيوية التي أقيمت لخدمة الأعمال النفعية, ثم نجدهم قد ارتفعوا بالمباني ارتفاعا يتناسب مع ضخامتها واستخدمت تصميمات داخلية رائعة ومبتكرة لتلبية احتياجات السكان.
وبالقدر الذي التفت اليه الرومان للحياة وأسبابها مثبتا تفوقه علميا وفنيا وعمائريا ونفوذا امتد لمعظم أنحاء العالم القديم, نجده يولي اهتماما كبيرا بالحياة الأخرى .
فالموت وغموضه كان الهاجس الذي شغل الرومان آنذاك لينعكس ذلك على أساليب تشييع موتاهم وطرق دفنهم وتنوع مدافنهم لدى مختلف الطبقات, منطلقين بفلسفتهم هذه من تأثرهم بالأمم التي خضعت لسيطرتهم وعلى رأسهم الاتروسك وقد غلبت عليهم مسحة الكآبة ومبعثها استغراقهم بالتفكر بالعالم الأخروي عالم السحر والغرابة, عالم الغيبيات والمجهول والذي يغلفه القلق والوحشة الروحية.
لذلك نجدهم أولو عناية خاصة بموتاهم بغض النظر عن الخلفية الاجتماعية التي ينتمي إليها المتوفي فقيرة كانت أم غنية, وذلك بإتباعهم إجراءات جنائزية تبدأ من ساعة الاحتضار وحتى الدفن, أطلقوا عليها اسم فانز (FUNNS) فأغنيائهم وكبار رجالات الدولة والاباطره اهتموا ببناء قبورهم وهم على قيد الحياة, أما الفقراء فقد تولت نوادي ومؤسسات خاصة مسألة مراسيم الدفن, علما بان كلا الطبقتين قد أجمعت على استئجار جنائزي محترف أطلق عليه اسم المشرف والذي يتولى ترتيبات الجنازة منذ ساعات الاحتضار وحتى الدفن, وكان الفقراء يمددون موتاهم بغرفة الجلوس وقدماه باتجاه الباب واضعين أمامه شجرة صنوبر لاعتقادهم بأنها تمنع عدوى الوفاة, أما الأغنياء ورجالات الدولة والاباطره فقد كان المشرف على ترتيبات الجنازة يعمد إلى استئجار النائحات ونافخي المزامير والموسيقيين وممثلين يقلدون شخصية المتوفي, لينتقل بعدها إلى الساحة العامة لإلقاء الخطب التي ترثي الميت بذكر مناقبه, ثم ينقل إلى مدافن والتي حرص الرومان على أقامتها خارج أسوار المدينة وذلك خوفا من تلوث المدينة ولحرصهم على تنقية وتطهير المحيط.
أما مدافنهم فقد ظهرت بأشكال وأحجام عكست أنماط العمارة والفنون الجنائزية السائدة آنذاك فمن المقابر الفردية والتي تتسع لفرد واحد وقد ظهرت بأشكال مختلفة, إلى المدافن الجماعية والتي يستخدم فيها القبر لأكثر من شخص سواء كان بالتزامن أو في فترات لاحقه, ومن هنا ظهرت مدافن أرضية وأخرى ذات الحجرة الرئيسية ومدافن الأبراج, بالإضافة إلى مدافن بيوت الحمام, لكن وان اختلفت مدافنهم بشكلها وحجمها إلا أنها اتفقت على إيجاد فجوة أو فتحة تفسح المجال لأقرباء المتوفي ومحبيه بتزويده بالطعام والشراب وذلك كترجمة حقيقية لفكرة الحياة بعد الموت والتي لم تتوقف عند هذا الحد بل بالغوا بدفن مرفقات جنائزية نفيسة وأسلحة وغير ذلك من أسباب الحياة, كمحاولات لجعل المتوفي يشعربانه في بيته, وكرمزية جنائزية استندت إلى مسألتين الأولى تصوير السعادة في الحياة ما بعد الموت, والأخرى أن الموت قادم لا مفر منه حتى بالنسبة لأفضل البشر وانه جاء كتعبير عن إرادة الآله.
وفي القرن الثاني الميلادي حصلت نقلة نوعية في عالم الدفن, إذ استبدلت عادة حرق الموتى باستخدام التوابيت الحجرية والتي جاءت من بعد اتصالهم الوثيق بالمدن المتأغرقه, لتنتشر هذه العادة خارج حدود الإمبراطورية في القرن الثالث الميلادي.
وقد حرص أبناء الطبقة الارستقراطية من كبار رجالات الدولة والأغنياء إلى الاعتناء بالتابوت الذي سيرقد به بعد وفاته, لدرجة وصلت حد التباهي بشكلها ولونها وبعمليات النحت التي تخللتها وأطلق عليها اسم توابيت التباهي والبذخ, وذلك لإرضاء الناظرين الأحياء وترك الانطباع الجيد عندهم, ولم تتوقف أهميتها عند هذا الحد بل نجدها غصت بالموضوعات ذات المرجعية الأسطورية والعقائدية والملحمية, كما إنها قد تأثرت بالبناء التعبيري فظهرت تمثل فصول السنة لترمز إلى حركة الزمن وتحرس الأبدية التي يوشك المتوفي أن ينتقل نحوها, كما إنها لم تغفل عن تشخيص حياة المتوفي وتناول نشاطاته اليومية , والتي أصبحت بمثابة الهاجس الأكبر لمعظم أبناء الشعب الروماني.
ومنطقتنا كانت واحدة من المناطق التي خضعت للسيطرة الرومانية في (64 ق.م) على يد بومبي, إذ أخذت بالنمو والتطور خلال القرنين الثاني والثالث الميلاديين, ورافقها تأسيس المدن والقرى في جميع أجزاء البلاد, وكان تراجان وهدريان من أكثر الأباطرة الرومان اهتماما بالمشرق الذين قاما بمعظم الأعمال والتنظيمات في ظل الفترة التي عرفت باسم السلام الروماني (PAX ROMANA).
وتعتبر مدافنهم واحدة من المخلفات المهمة التي مثلت جانب من جوانب التاريخ الروماني التي وجدت منتشرة في مواقع متعددة من شمال الأردن على رأسها جرش, يعمون,طبقة فحل,اليصيله,الذنيبة,ام قيس,وقويلبة,وكانت الأخيرة قد حظيت بمئات المدافن المزين بعضها برسوم جداريه والمنتشرة على طرف وادي قويلبة وقد ظهرت بأشكال وتصاميم مختلفة بين المستطيلة وذات القبة أو القبتين, متضمنة توابيت حجرية موضوعة داخل كوات محفورة بالجدار.